أوركسترا ديوان شرق-غرب.. بمناسبة ربع قرن على تأسيسها
بلقيس شرارة
منذ اسبوع تقريباً حضرتُ حفلة موسيقية في قاعة الإحتفال الملكية/ Royal Festival Hall، وكانت “أوركسترا ديوان شرق-غرب”، بقيادة الموسيقار الأرجنتي دانيال بارنبوم/Daniel Barenboim، التي تضم أكثر من 65 عازف. تاسست هذه الأوركسترا منذ ربع قرن، من قبل كل من بارنبوم كقائد الأوكسترا والكاتب والمفكر الفلسطيني الأمركي أدورد سعيد الذي توفي عام 2003، حيث تجمع هذه الأوركسترا شباب من الإسرائيلين والفلسطينين والعرب.
إذ كانا يفتشان من خلال الموسيقى عن مثيل في الحياة يعترف بحقوق الناس متساوين. وبمناسبة المذبحة التي حدثت وما زالت مستمرة في غزة، حيث ازيلت معالم مدينة بكاملها، بل إن رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو يحاول ان يزيل معالم شعب بكامله هو الشعب الفلسطيني.
وجهت الأوركسترا نداءً لإيقاف الحرب: ” نطلب من رؤوساء المجتمع المحلي والدولي ان يتوقفوا عن المماطلة والتسويف ويضعوا نهاية لدورة العنف، والتأثير في إيجاد وقف لإطلاق النار الدائم، ليعود المختطفين من الأسرائليين آمينين إلى بيوتهم وأطلاق سراح المعتقلين من الفلسطينين. انه حتمي أن نسعى إلى سلام دائم والاعتراف بالمساواة بحقوق الفلسطنين”.
لقد حضرتُ أول حفل موسيقي للموسيقار بارنبوم في عام 1973، في احتفالات مدينة أدنبرا التي كانت وما تزال تقام كل عام في شهر آب. كان دانيال بارنبوم شاباً لا يتجاوز الثلاثين من العمر، وكان في تلك الفترة عازف بيانو. فقد ولد أثناء الحرب العالمية الثانية 1942، في الأرجنين، وهاجر مع عائلته إلى إسرائيل في الخمسينيات القرن الماضي. وأصبح قائد الأوركسترا و أوربرا برلين في ألمانيا منذ 1992-2023.
وقد انشأت أوركسترا ديوان، واصبح مقرها في مدينة أشبيلية في اسبانيا التي تجلب كل عام، الشباب من الموسيقيين الفلسطينين والعرب والإسرائيليين ليدرسوا الموسيقى الكلاسيكية ويعزفوا ولكي يرقوا أيضاً إلى التأمل المتبادل. وهو حامل لأربع جنسيات، الفلسطينية والإسرائلية والأسبانية والأرجنينية، ويعَتبرْ العالم وطنه، وينتقد حكومة إسرائيل اليمينية المحافظة واحتلال الأراضي الفلسطينية.
وكان منذ البداية يطالب بحل الدولتين، ليعيش الشعب الفلسطيني بجانب الشعب الإسرائيلي بسلام. وقد قال في مقابلاته: “ان سلامة وأمن إسرائيل لا يتم في المستقبل إذا لم يتم سلام وأمن الشعب الفلسطيني، من خلال دولة مستقلة لهم، وان لم تحدث فإن الحروب وتاريخ المنطقة ستكون بعيدة عن الاستقرار”.
وقد حصل على عدة جوائز، كما كانت له مواقف جريئة، ومنها عندما قدمت إليه جائزة الأمير أوستراياس/ Price Asturias Awards، لتحسين التفاهم بين الأمم كما كتب كتاب مع إدورد سعيد، وعندما صدر الكتاب، رفض مقابلة طلبها “راديو اسرائيل” في عام 2005، وقد أطلقَ عليه بمناسبة أخرى وزير الثقافة في حزب الليكود في إسرائيل ليمور ليفانت/ Limor Livant “كاره اليهود، وضد السامية”. وعندما حصل على جائزة ولف/Wolf prize، اقيم له احتفال في الكنسيت اليهودي من قبل وزير الثقافة الذي أوقف تسليمه الجائزة حتى يقدم اعتذاراً عن عزفه اعمال الموسيقار الألماني فاخنر/ Vagner الذي عُرف عنه أنه كان ضد السامية. وعندما تكلم دانيال بارنبوم في ذلك الحفل، قال:
” أنا أطلب اليوم مع شديد الحزن، بالرغم من جميع ما انجزناه كدولة، نحاول ان نتجاهل الفجوة بين اعلان الإستقلال وما انجزناه، الفجوة بين الفكرة وما حقيقة إسرائيل. هل الإحتلال والسيطرة على شعب آخر تتماشى مع اعلان الإستقلال، هل هنالك حاسة وشعور بين الإستقلال على حساب حقوق الأخر؟ ويتسائل: هل يستطع الشعب اليهودي الذي تاريخه مليئ بالعذاب والإضطهاد ان لا يهمه حقوق وعذاب جيرانهم الفلسطينين؟ وهل بامكان دولة إسرائيل ان تحقق حلمها غير الواقعي بدل ان تنهي الصراع وتتخذ الطريق البرغماتيكي الإنساني الذي يعتمد على حقوق الإنسان والعدل”.
وقد عزف مرات عديدة في الضفة الغربية في راملا وفي جامعة بير زيد، وفي عام 2007، شارك عدد من الموسيقيين الألمان والبريطانيين والفرنسيين العزف في “غزة”، و كان من بينهم موسيقار فلسطيني واحد، رفضت السلطة الإسرائلية السماح له بالدخول إلى غزة بعد انتظاره ساعات الحدود، فألغى بارنبوم الحفلة لهذا السبب.
وفي عام 2008، بعد ان عزفت الفرقة في راملا، قُدم لبارنبوم الجنسية الفلسطنية فوافق، وهو أول اسرائيلي حامل الجنسيتين. حيث أدى إلى غضب رئيس البرلمان وطلب تجريده من الجنسية الإسرائلية.
كما كان ادور سعيد عازف بيانو جيد، ولد في القدس عام 1935 عندما كانت فلسطين محمية بريطانية. وبعدها هاجر مع أهله إلى مصر حيث درس في كلية فكتوريا، واستقر مع عائلته في الولايات المتحدة، حيث اكمل دراسته فيها وتخصص في الأدب واصبح استاذ الأدب في جامعة كولومبيا. وقد كتب العديد من الكتب، ومن اشهرها كتابه المستشرقون/ Orientalism، الذي أحدث ضجة كبيرة وجدل حول الفكرة، حيث انتقد الكتاب المستشرقين الذين كتبوا عن المجتعمات والناس في الشرق بصورة تحط من مستواهم، والتي لها ارتباط كبير في الاستعمار التي عانت منهم تلك الدول إن كان في الشرق الأوسط أو آسيا أو أفريقيا. كان نشطاً ويطالب مثل بانبوم في حل الدولتين، وفي عام 1999 اسس معه الأوركسترا ديوان.
التقيت به في شيكاغو، وألقى محاضرة، حيث يوجد جالية عربية كبيرة هناك، ودارت الاسئلة حول كتابه ” المستشرقون”.
ما جمع الموسيقار دانيال بارنبوم وأدورد سعيد، هو التقارب في الرأي، أي التقارب الفكري، فكلاهما عازفان البيانوا، إضافة إلى الاتفاق بينهما على حل الدوليتين، لكي يعيش الشعبين بسلام وطمأنينة.
لو كان في اسرائيل عدد يفكرون كما يفكر دانيال بارنبوم وأدورد سعيد، لما حدثت تلك المجازر بحق شعب كالشعب الفلسطيني.
كان الموسيقار دانيال بارنبوم في تلك الأمسية معتباً، يمشي ببطئ، وجلس طيلة المدة على كرسي أثناء قيادته الأوكسترا، وربما يتقاعد وقريباً، وتكون هذه آخر حفلة موسيقية له.