التضليل الإعلامي ـ سلاح روسيا “الناعم” لزعزعة الديمقراطيات – DW – 2024/9/15
أطلقت السلطات الأمريكية تحقيقات مكثفة الأسبوع الماضي تركزت على شركة مقرها ولاية تينيسي، متهمة بتلقي 10 ملايين دولار من قناة “روسيا اليوم” (RT) الروسية. الهدف من هذا التمويل ـ حسب الاتهام ـ كان إنتاج وتوزيع محتوى إعلامي يحمل رسائل حكومية روسية خفية، موجهة للجمهور الأمريكي. وبحسب التحقيقات، استخدمت الأموال لإنتاج مقاطع فيديو قبل انتخابات نوفمبر 2024، ركزت على دعم روايات يمينية حول قضايا مثل الهجرة، الهوية الجنسية، والاقتصاد.
تقول لائحة الاتهام إن الآراء التي أعربت عنها تلك المقاطع “تتوافق غالبًا مع مصالح الحكومة الروسية التي تهدف إلى تعزيز الانقسامات داخل الولايات المتحدة”. وكان الهدف من ذلك “إضعاف مقاومة الولايات المتحدة للمصالح الرئيسية لروسيا، مثل الحرب المستمرة في أوكرانيا”.
استراتيجيات متعددة وتأثيرات واسعة
تُعد القضية الحالية جزءًا من سلسلة محاولات مستمرة من روسيا للتأثير على الانتخابات في دول ديمقراطية، رغم أن موسكو تنفي بشكل متكرر هذه الاتهامات. تُظهر الأدلة كيف تسعى روسيا لتقويض الثقة في العملية الانتخابية حول العالم، مما يعزز من دورها في خلق اضطرابات سياسية داخل الدول المستهدفة.
تقول جوليا سميرنوفا من مركز “CeMAS” في برلين، وهو معهد متخصص في دراسة التضليل والإيديولوجيات التآمرية عبر الإنترنت: “لقد حاولت روسيا لسنوات التأثير على الانتخابات في دول ديمقراطية، مثل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، والانتخابات الفرنسية لعام 2017”.
في أكتوبر 2023، أصدرت الولايات المتحدة تقريرًا استخباراتيًا إلى أكثر من 100 دولة حليفة، يؤكد أن روسيا تستخدم مجموعة من الوسائل، مثل الجواسيس، والشبكات الاجتماعية، ووسائل الإعلام الحكومية، للتأثير على الرأي العام وزعزعة الثقة في نزاهة الانتخابات.
وخلال الفترة ما بين 2020 و2022، تعرضت تسع دول على الأقل لهذه التدخلات، بالإضافة إلى 17 دولة أخرى شهدت نشاطات روسية أقل وضوحًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تضخيم المخاوف الداخلية حول نزاهة الانتخابات المقبلة. كما ظهرت تقارير مشابهة عن التدخل الروسي خلال الانتخابات الأوروبية في يونيو 2024.
الترهيب والتضليل: أدوات روسيا للتأثير على الانتخابات
تعتمد روسيا على مجموعة من التكتيكات المتنوعة للتدخل في الانتخابات الديمقراطية، منها الترهيب والتضليل والتلاعب بالرأي العام. في إحدى الانتخابات الأوروبية عام 2020، زُعم أن النشطاء الانتخابيين تعرضوا للترهيب، وذلك ضمن محاولات للتأثير على سير الانتخابات. وخلال الفترة بين عامي 2020 و2021، لعبت وسائل الإعلام الروسية المملوكة للدولة دورًا رئيسيًا في نشر مزاعم كاذبة حول تزوير الانتخابات في دول ديمقراطية عدة. وفي إحدى دول أمريكا الجنوبية، سعت روسيا إلى زرع الشكوك حول استقلالية العملية الانتخابية.
تشرح جوليا سميرنوفا، الخبيرة في قضايا التضليل، أن روسيا تعتمد أيضًا على أدوات مثل الهجمات الإلكترونية، حيث تقوم بنشر وثائق سياسية داخلية، سواء كانت أصلية أو مدمجة مع مواد مزيفة، كما حدث في الانتخابات الفرنسية لعام 2017. بالإضافة إلى ذلك، تستخدم موسكو وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام عبر حسابات وهمية ومنصات إعلامية مثل “روسيا اليوم”.
من أبرز الأمثلة على أساليب التضليل الروسية ما يُعرف بـ “حملة الشبيه”، حيث قامت روسيا بإنشاء مواقع إلكترونية مقلدة لمنصات إعلامية معروفة مثل “شبيغل” و”واشنطن بوست” و”فوكس نيوز”، لكنها كانت تحتوي على محتوى مؤيد لروسيا. ثم يتم نشر روابط لهذه المقالات المزيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في التعليقات على المقالات الحقيقية، بهدف تضليل الجمهور والتأثير على توجهاتهم.
الهدف الطويل الأمد: تقويض الديمقراطية
لم يعد الهدف من التدخل الروسي يقتصر فقط على نشر وتعزيز المواقف المؤيدة لروسيا، مثل تلك المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، بل يتجاوز ذلك بكثير. الهدف الرئيسي الآن هو تعزيز المصالح الجيوسياسية لروسيا وزعزعة استقرار الدول التي تعتبرها الكرملين خصمًا لها. لتحقيق هذا الهدف، تسعى روسيا إلى تأجيج النقاشات المثيرة للانقسام داخل الديمقراطيات وتعميق الشقاقات الموجودة بالفعل داخل هذه المجتمعات.
لتحقيق هذه الغاية، يتم تعزيز الأحزاب الموجودة على أطراف الطيف السياسي ماليًا ودعائيًا. في عام 2022، ذكرت صحيفة *واشنطن بوست* أن روسيا أنفقت ما لا يقل عن 300 مليون دولار لدعم أحزاب مؤيدة لها حول العالم، بما في ذلك في دول صغيرة مثل ألبانيا، الجبل الأسود، مدغشقر، والإكوادور. ووفقًا لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، فإن قوى مرتبطة بالكرملين تستخدم شركات وهمية ومراكز أبحاث وأدوات أخرى للتأثير على الساحة السياسية، غالبًا لصالح الجماعات اليمينية المتطرفة.
في مارس 2024، كشف جهاز الاستخبارات التشيكي BIS عن شبكة نفوذ ممولة من روسيا، والتي شملت تلقي نائب ألماني من حزب *البديل من أجل ألمانيا* اليميني المتطرف، بيتر بيسترون، أموالاً من روسيا. ويُعتقد أن هذه الأموال نُقلت عبر بوابة إنترنت مؤيدة لروسيا مقرها في براغ تسمى “صوت أوروبا”. وتم توجيه الأموال أيضًا إلى أحزاب متطرفة في فرنسا، بولندا، بلجيكا، هولندا، والمجر.
محاولات ليست دائمًا ناجحة
وفقًا لتقرير الاستخبارات الأمريكية الصادر في أكتوبر 2023، تهدف روسيا إلى هدفين أساسيين من خلال تدخلها في الانتخابات الديمقراطية: أولاً، تصوير هذه الانتخابات على أنها غير موثوقة، وثانيًا، نزع الشرعية عن الحكومات المنتخبة، مما يؤدي إلى زعزعة استقرار الديمقراطيات وإضعاف أعدائها حول العالم.
لكن الدول الديمقراطية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المحاولات. على سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي بمصادرة 32 نطاقًا إلكترونيًا كانت تُستخدم في حملة “إيجاد الشبيه”. ومع ذلك، فإن الحلول طويلة الأمد تكمن في تعزيز مرونة المجتمعات الديمقراطية من خلال تحسين التعليم الإعلامي والتفكير النقدي للشباب والبالغين، بهدف توعيتهم حول إمكانية استهدافهم بالتأثير الروسي.
تؤكد جوليا سميرنوفا: “رغم استثمار روسيا موارد ضخمة سنويًا في هذه الحملات، إلا أن نجاحها ليس مضمونًا دائمًا. يجب أخذ محاولات التأثير على محمل الجد، لكن ينبغي أيضًا فهم أن روسيا لا تحقق أهدافها دائمًا.”
ترجمه وأعده للعربية: علاء جمعة