التعالي التكنولوجي في تخيل الذكاء الاصطناعي
د. نادية هناوي
القسم الثاني
تتميز فصول كتاب(تخيل الذكاء الاصطناعي: كيف يرى العالم الآلات الذكية؟) * 2023 تحرير ستيفن كايف وكنتا ديهال بتركيزها على تفوق الغرب التكنولوجي، ومن ثم يكون طبيعيا أن يتشكل الذكاء الاصطناعي كسردية أسطورية، فيها العقل الغربي هو المتفوق والمتعالي. ويضاف إلى هذا التعالي التكنولوجي انغلاق إيديولوجي يجعل سردية الذكاء الاصطناعي مستحكَمة بوجهة نظر نقدية ذات مستويين: الأول مستوى السرديات نفسها كقصص وروايات وأفلام وقصص مصورة وفنون بصرية. والثاني مستوى المساهمات الفكرية في تحليل تلك السرديات وتحديد الدوافع والحجج مع تسليط الضوء على مسائل أخر مختلفة. ومن دلائل هذا الانغلاق استكشاف تأثير الآلات الذكية على التصورات الفكرية لتقنيات الذكاء الاصطناعي وكيف ان لها في صلتها بالذكاء البشري معاني ضمنية تجتمع فيها مفردات(صناعة/ تكنولوجيا / حداثة انجلوامريكية) ومنها تتولد المخاطر الوجودية والأخلاقية لمستقبل التطور البشري التكنو- بيولوجي على المدى البعيد. فتكون التربية المعلوماتية للتكنولوجيا الوجودية وعلم السبرانية (قامعة) للنفعية والشيوعية والطبقة البرجوازية والبروليتاريا الجديدة.
بمعنى أن الغرب هو موئل التخييل التكنولوجي بوصفه المصنِّع للآلات الذكية. وهذا التعالي التكنولوجي هو ما تعكسه الدراسات التي كتبها باحثون ينتمون إلى العالم الصناعي المتقدم كما في دراسة الباحث الروسي انطون بيرفوشين وفيها حدد ثلاثة اتجاهات في استعمال الآلات الذكية منها تشكلت سردية الذكاء الاصطناعي في الاتحاد السوفيتي بين الأعوام 1922 -1991 الاتجاه الأول فيه هذه الآلات قوى عاملة رخيصة والثاني بوصفها بروليتاريا جديدة لعالم المستقبل والثالث إجبار هذه الآلات على اكتساب المشاعر وفهم القوانين والمحرمات. وخلص الباحث إلى أن لسردية الذكاء الاصطناعي في المخيلة العلمية السوفيتية صورتين متخيلتين ونمطيتين هما الروبوت الشرير والروبوت المضحك.
وتتبع الباحثان انجليكا سولوفييفا ونيك هاينيك في دراستهما المعنونة(المتخيل الروسي للروبوت والسايبورغ والآلات الذكية) تاريخ مئة عام من التصور السردي للآلات الذكية في روسيا. وصنفا هذا التاريخ إلى ثلاث مراحل: الأولى أساسية تتمثل في تصور العلاقة بين الإنسان والآلة خلال الثورتين البلشفية والفنية الروسية. والمرحلة الثانية بدأت في منتصف القرن العشرين وفيها تقدمت هندسة الروس للكومبيوتر وعلم السبرانية والأتمتة مما ولَّد فنتازيا الذكاء الاصطناعي. والمرحلة الثالثة تتمثل في مرحلة (روسيا بوتين) وفيها صار للثقافة الشعبية كما للبحث العلمي دور مهم في تخيل مستقبل الآلات الذكية التي تشبه الكائن الحي.
ومثل ذلك يقال مع الدراسات التي كتبها باحثون ألمان وايطاليون وفرنسيون فهي تركز أيضا على التعالي التكنولوجي وما ساد من تصورات الذكاء الاصطناعي في الغرب الناطق باللغة الانجليزية كأدب خيال علمي وأفلام هوليوودية، ترتبط بالهيمنة الامبريالية والاستعمار الاستيطاني إلى جانب التطرف الطوباوي أو الدستوبي في الخوف من انحلال الهيمنة وفقدان السيطرة وتمرد الآلة والتخلي الطوعي عن الاستقلالية لصالح الآلات.
أما الدراسات التي كتبها باحثون من شرق آسيا وجنوبها – وبعض منها اشترك فيها باحثون غربيون- فإنها تندرج في سياق وضع رؤى إيديولوجية تتعارض في المجمل العام مع التعالي التكنولوجي. وصحيح أن للغرب دورا جذريا في تصدير سردية الذكاء الاصطناعي، بيد أن للشعوب تاريخها وثقافاتها التي منها تتشكل سردياتها الخاصة.
فالباحث الياباني كاتسونو أكد أن الخيال الغربي الروبوتي جعل الآلات الذكية تبدو مهددة البشرية في حين يراها الخيال الياباني شريكة للبشر، تقدم الخدمات والمهارات وتحل مشكلاتهم وتيسر حياتهم. ومثّل على ذلك بالانتميشين أو الرسوم المتحركة والروبوتات اليابانية المتحلية بالعاطفة الذكية التي تتحدى التمييز القسري بين العقل والشعور في الأبحاث الغربية، مؤكدا أن للسياسة الثقافية دورا في صنع مثل هذا التمييز وبحسب مفهوم العاطفة نفسه.
واهتم الباحث البرازيلي ادوارد كينغ بجماليات التخيل العلمي الافرو- أمريكي في البرازيل ورأى أن فيه تحديا للتمييز العرقي بين الثقافة السوداء والعلم والتكنولوجيا وصنع هوية تكنو- ثقافية عالمية هجينة أو تعددية واقتراح تصورات ما بعد إنسانية تتشابك بشكل وثيق مع أنظمة الكومبيوتر فلا تعيد إنتاج نسخ زائفة من الحداثة والعنصرية ضد السود.
وذهب الباحث التشيلي راؤول كروز إلى أن المقاومة والتمرد واضحان في الأعمال الفنية التي تدمج بين تقنيات الخيال العلمي والثقافة الأصلية لشعب المايا والازتيك، وان التكنولوجيا الجديدة لن تمحو التقاليد والأساطير وإنما هي تجانس بينها مما سيؤدي إلى دمج تراث الشعوب الأصلية الأدبي مع التقدم الميكانيكي والتكنولوجي وسيصنع رؤى متخيلة متميزة للآلات الذكية من قبيل الروبوتات ذات الطابع الازتيكي. وركزت مواطنته ماركارينا اريكو على موضوعات الهوية والتكنولوجيا والنيوليبرالية في تحليل متخيلات الذكاء الاصطناعي وتمثيلاتها من خلال أعمال الكاتب التشيلي خورخي باراديت.
وبعض هذه الدراسات تجاوزت الأدب إلى الموسيقى والتشكيل والمسرح والألعاب. فدرس الباحث الهندي موكيرجي الخيال العلمي في الهند وانه كان يمتح مواده أولا من مقدمات التنوير الأوروبي الرئيسة ثم تمكن في المرحلة ما بعد الاستعمارية التي بدأت منتصف القرن العشرين من أن يشكِّل سرديته الخاصة في الذكاء الاصطناعي.
وعنيت الباحثة ابا بيرهاني بغزو الذكاء الاصطناعي والتكنولوجية الغربية لإفريقيا والهيمنة الاستعمارية السياسية والثقافية والاجتماعية. وما تولَّد عن ذلك من تفاوت، لا يقدم أية حلول لمشاكل إفريقيا. فالغزو لا يطور المنتج المحلي ومن ثم تبقى القارة معتمدة على الغرب في كل ما يتعلق بالبرمجيات وبناء البنية التحتية الخوارزمية لهذا الذكاء. وأشارت الباحثة راشيل ادمز إلى أن سردية الذكاء الاصطناعي تقدم متخيلا بديلا يتجاوز الثنائيات النمطية ويركز على الهوية والجندر وطبقت ذلك على أعمال الكاتبين النيجيريين تشينوي واشينوا اتشيبي واكوايكي ايمزي.
وأكدت الدراسات الخاصة بالمنطقة العربية -المعبر عنها بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا- أن تخيل الآلات الذكية كان معروفا منذ العصر الذهبي الإسلامي غير أن تأثير المتخيلات الغربية للتقدم الصناعي والتكنولوجي خلقت بيئة فريدة في تخيل مستقبل الآلات الذكية وبرؤى محلية للتكنولوجيا متأثرة بتاريخ المنطقة المعقد وما فيه من صراعات سياسية واقتصادية معاصرة. ونرى في التمييز اللغوي والمناطقي(الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) دليلا على تهميش اللغة العربية فضلا عن أن هذا التعبير لا يعكس بل لا يغطي مساحة الجغرافيا العربية التي هي ممتدة من الشرق الآسيوي إلى الشمال الإفريقي وغربه، وتحاذي قارة أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط وتطل على المحيط الأطلسي.
ودارت الدراسة الكورية حول تغير خطاب السياسات بشأن الذكاء الاصطناعي بعد مؤتمر دافوس 2016 وأن مصطلح “الثورة الصناعية الرابعة” جعل التكنولوجيا غامضة في أغراضها وتوجهاتها حول الذكاء الاصطناعي مؤكدا على حقيقة أن الإرث التنموي تغلغل إلى زوايا المجتمع الكوري.
أما الباحث الصيني بينغ سونج فاهتم بدراسة أثر الأفكار الفلسفية للطاوية والبوذية والكونفوشوسية في النظر إلى التقنيات المتقدمة وعلاقة الإنسان بالآلة. وعاد الباحثان بايشون زانغ ومياو تي إلى أسرة تشن التي حكمت الصين في قرون ما قبل الميلاد، وتتبعا الآلات المتخيلة التي تسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي. وقاما بمقارنتها بالآلات الحقيقية المبتكرة في تكنولوجيا الحروب. ودرس يان وو الصين في القرن العشرين من 1949-1983 من ناحية المتخيل العلمي الذي وظفت فيه أجهزة الكومبيوتر والروبوتات ولم تكن شريرة وإنما تساعد الإنسان في القيام بجمع البيانات وانجاز الإعمال اليدوية. وساهمت حقبة الإصلاح والانفتاح عام 1978 في ظهور سردية ذات طابع روبوتي، موجهة نحو إنشاء بيئة تنموية اجتماعية وعلاقات أسرية مستقرة.
ودرس باحث صيني آخر هو فنغ زانغ جيلا أحدث من الخيال العلمي، يتناول الذكاء الاصطناعي في الصين من ناحية خوارزميات تعلم الآلة والتناقضات في أخلاقيات هذا الذكاء وخرافياته. وتناول الباحثان شيريل جوليا لي وغراهام ماثيوز سردية الذكاء الاصطناعي في سنغافورة من ناحية التصورات الخيالية والتمييز بين التكنولوجيا الغربية والقيم الشرقية التقليدية مع تحليل مبادرة رئيس الوزراء لي هسين لونغ في الاعتماد المتبادل بين البشر والآلة.
- Imagining AI: How the World Sees Intelligent Machines Introduction Stephen Cave and Kanta Dihal, Oxford University Press, 2023, p3-15.