ثقافة وفن

الحديث عن الكبار

عبد الخالق كيطان
قبل أيام أنهيت قراءة كتاب بعنوان “شخصيات” للكاتب الصحفي المصري محمد عوض. والكتاب عبارة عن بورتريهات قلمية موسعة عن شخصيات مصرية ذائعة. طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم كانوا الأبرز بالنسبة للقارئ “العام”. أنت تدرك أن هذا المصطلح يقابل مصطلح القارئ الخاص، واعني بذلك المتخصّص. على أيّ حال، فإن هذه الأسماء قد ذاع صيتها بين القارئين الخاص والعام لأسباب عديدة، ربما ليس أوان تبيانها الآن. ما أردت قوله أن الحديث عن الكبار يحتاج مهارات هو الآخر. بل أن هذا النوع من الكتابة، وهي كتابة تكاد تكون نادرة في أدبنا العراقي، ظل مهملا على الدوام. وفي خلاصة القول اؤكد: أن الكتابة عن الكبار تحتاج إلى كتّاب كبار حقا.
كبار الثقافة العراقية منذ الخمسينيات وإلى اليوم كانوا في شطرين، الأول يقيم خارج البلاد لأسباب مختلفة، أغلبها سياسي، والشطر الثاني مقيم داخل العراق.
وقبل الولوج في هذه الثنائية القارّة عراقيا، لابد من الوقوف عند مصطلح الكبير ذاته. من هم الكبار؟ ولماذا هم كبار؟ وكيف صاروا كبارا؟ ما علاقة الكبير بالعمر، التجربة، الذاكرة؟ من الذي يحدد كبار العراق في الفنون والآداب؟
إنه أمر إشكالي ولا شك، ولهذا ألجأ إلى معايير شخصية فيه. الكبار عندي هنا، هم الذين كان اثرهم بارزا، إبداعيا واجتماعيا. وفي تاريخ العراق، المعاصر، أسماء تحدّت واقعها لكي تنتج أدبا وفنا مازلنا نتتبع آثاره إلى اليوم.
ساضرب مثلا في الفن. ربما لا يتخيل القارئ اليوم الجهود التي بذلها فنانون عراقيون في الأربعينات من أجل تقديم مسرحية، أو تلحين أغنية، أو رسم لوحة، أو نحت جدارية. كان هؤلاء يتحدّون مجتمعاتهم. ما وصلنا منهم اليوم مجموعة من النتاجات هي التي نقول عنها أنها نتاجات تأسيسية. وقد تكون بعض هذه النتاجات، بمعايير النقد الحديثة، متواضعة فنيا، إلا أن خصوصيتها الواضحة والبارزة في كونها تأسيسية كما قلنا قبل قليل. أعمال تحدّت زمنها وواقعها الاجتماعي والسياسي وشكلت الطريق لتجارب لاحقة. من هم هؤلاء المؤسسون؟ هل تستطيع، أيها القارئ المعاصر، أن تسمّي بعضا منهم؟ والحق اقول انك عندما تسمّي بعضهم فأنت تنعتهم بالكبار. هكذا نصل إلى سؤال هذا المقال: من منّا قادر على تتبع سير الكبار ومن ثم كتابتها، فيسدي بذلك معروفا وطنيا؟
الأهواء في هذا الموضوع مشكلة. الميول السياسية، والطائفية حتما، مشكلة تعيق ولا شك مثل هذا المسعى الوطني. يدفعني ذلك إلى دراسة الأثر من جديد. عليك أن تتخيل، مثلا، الصعاب التي واجهت أوّل عميد لكلية الطب في العراق. وكذلك أوّل رئيس جامعة. أوّل ممثل. أوّل سأرد. وأوّل خارج عن قيود الشعر. هل يمكنك مع هذه الأسماء أن تستحضر مواقفا سياسية أو طائفية بالمعنى المبتذل اليوم؟ إذا كانت الإجابة بلا فأنت تصل بيسر إلى الكبير في مجاله. وإذ وصلت إليه، ستعرف حتما حجم الإهمال الذي يعاني منه لأسباب خارجة كليا عن إرادته، ولكنها أسباب تتصل بالأزمنة اللاحقة له، وتداخلات السياسي والطائفي فيها.
لم يكن جعفر السعدي، مثلا، معنيا بما نلوكه اليوم من احاديث سياسية وطائفية بالقدر الذي كان يعني خلق حركة تنويرية في مجتمع متخلف. تستطيع القول أن ذلك هو هدف جواد سليم وبدر السياب وعلي الطاهر وعلي الوردي وحقي الشبلي ومحمد القبانجي. هؤلاء الكبار، بالنسبة لي، بحاجة إلى كتابة ترسم أدوارهم الإبداعية والاجتماعية والتي، أي الكتابة عنهم، قد تؤدي إلى رأي عام وطني، نحن بأمس الحاجة إليه في زمن التشرذم الذي نعيش.
ومن اللافت في هذا الشأن غياب الكتابة عن شخصيات حيّة وتكريس الكتابة عن عوالم من رحلوا جسديا فقط. وبالرغم من نبل المسعى بحد ذاته، إلا أن الأحياء من الشخصيات الوطنية، كلّ في مجالها، يستحقون أيضا رسم صور قلمية عن حيواتهم وانتاجاتهم. والأمر متصل أيضا بخصوص شخصيات ظلمت بسبب الارتباط العقائدي أو السياسي… أو بسبب الغياب الذي تركته عوامل الهجرة والنفي.
الكتابة عن الكبار في تخصصاتهم المختلفة تعني بالضرورة قراءة واقع البلاد في عقود مختلفة من الزمان. وفي هذا الصدد فلقد تعرفت على أسماء كتاب عراقيين، مجهولين كليا اليوم، وذلك من خلال قراءة كتاب عن جهود الدكتور زكي مبارك في ثلاثينيات القرن الماضي في العراق. هؤلاء الكتاب كانوا أعلاما في وقتهم، في الشعر والصحافة والنقد الخ.. ولولا كتاب الدكتور زكي لما سمعت بهم. بالطبع أنا شخصيا لا اصلح أن أكون مقياسا للدقة في هذا الموضوع، ولكنه حديث متصل.
القراءة عن الكبار في تخصصاتهم المختلفة تعني بالضرورة سياحة في التاريخ. وفي المثال السابق على سبيل المثال، نتعرف عن طرق النقل، المقاهي والملاهي والمطاعم، الأندية الثقافية، نوع الوزارات، تأسيس الكليات…. الخ في العراق مطلع القرن الماضي. وهي قراءة تقدم نفسها بوصفها جزءا من صورة بانورامية، فلا تسمح لتزييف أن يخترقها أو أن تمسّها أهواء المؤرخين.
اخيرا: هنالك جهود مخلصة في هذا المجال، وأخص بالذكر ملحق “عراقيون” الذي يعدّه ويحرره الكاتب الكبير علي حسين، ويصدر أسبوعيا عن جريدة المدى الغراء. الشخصيات العراقية التي تناولها الملحق عبر سنواته المديدة تمنح القارئ جولات منعشة في أدب وفن وإبداع تلك الشخصيات. هؤلاء هم الكبار الذين يستحقون أن يظلوا بيننا من خلال الكتابة المستمرة عنهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى