ثقافة وفن

الفعاليات غير النفعية مهمة لحياة البشر

أدار الحوار: سوزان كروغلينسكي

ترجمة: لطفية الدليمي
تقديم المترجمة:
الحوار التالي ترجمة لمعظم فقرات الحوار المنشور بمجلّة Discover بتأريخ 13 يناير (كانون ثاني) 2007، وتمّ تحديثه بتأريخ 12 نوفمبر (تشرين ثاني) 2019 (بعد وفاة منسكي). سيلمس القارئ طبيعة الوتيرة المتسارعة لتطور الذكاء الاصطناعي، وهذا ما أردته من ترجمتي لهذا الحوار الغني بحمولته التقنية والمفاهيمية.
مارفن منسكي (1927-2016) هو أحد الآباء المؤسسين Founding Fathers للذكاء الاصطناعي؛ لذا فإنّ قراءة حواراته متعة كبرى. لو استطاع أحدنا قراءة كتبه إلى جانب حواراته فسيكون الامر متعة مضاعفة.
لطفية الدليمي
ظلّ مارفن منسكي Marvin Minsky إسماً لامعاً طيلة حياته في حقول العلم ورواية الخيال العلمي. أستاذ معهد ماساتشوستس MIT، و(غورو Guru) الذكاء الاصطناعي كانت له سطوته وتأثيره في الجميع من إسحاق أسيموف حتى بطل العالم الرقمي (الحاسوب العملاق المسمّى ديب بلو Deep Blue) وحتى النجم السينمائي الحاسوبي المسمّى HAL الذي لمع في فلم 2001: A Space Odyssey.
قد يُعرَفُ عن منسكي في أوساط معهد MIT بأنه “منسكي العجوز”؛لكنّه فاعل في بحوث الذكاء الاصطناعي في أيامنا هذه (جرت وقائع الحوار عام 2007. توفي منسكي عام 2016. المترجمة) مثلما فعل وهو في اوج نشاطه شاباً رائدا في تطوير حقل الذكاء الاصطناعي في خمسينات القرن العشرين.
رغم أنّ منسكي درس الرياضيات لكنّه ظلّ طيلة حياته يفكّرُ بمفردات العقل والآلة. في أطروحته للدكتوراه التي قدّمها لجامعة برينستون بداية خمسينات القرن العشرين قدم فكرة تحليلية دقيقة لـ “آلة قادرة على التعلّم” عنى بذلك آلة تحاكي في عملها عمل الشبكات العصبية الدماغية. في بواكير مهنته كان منسكي أيضاً مكتشفاً خلاقاً قدّم لنا أوّل مجهر يعمل بالمسح البؤري، والذي صارت نسخته المطوّرة لاحقاً عدّة اساسية في كلّ مختبرات العالم العلمية. شارك منسكي عام 1959 في تأسيس مختبر الذكاء الاصطناعي في MIT حيث صمّم وبنى في ذلك المختبر أذرعاً روبوتية لها القدرة على أن “تشعر” و” ترى” و”تتعامل” مع الأشياء المادية في محيطها.
فضلاً عن كلّ هذه الجهود المهنية كانت لمنسكي مساهماتُهُ الفلسفية في موضوع الذكاء الاصطناعي، وبلغت تلك المساهمات ذروتها في كتابه المنشور عام 1985 بعنوان: Society of Mind، الذي لخّص فيه نظريته بشأن كيفية عمل العقل البشري. سيفترض منسكي في كتابه هذا أنّ ظاهرة التفكير المعقّدة يمكن تفكيكها إلى سلسلة عمليات متخصصة بسيطة تعمل معاً كما لو كانت أفراداً في مجتمع. الكتاب الآخر لمنسكي هو: The Emotion Machine، ويمضي فيه بتطوير أفكار كتابه السابق بعد أن أضاف لها خبرة ما يزيد على العشرين سنة.
الحوار
ما هي أحدث أفكارك بشأن العقل كما عرضتَها في كتابك المسمّى The Emotion Machine؟

  • الموضوعة الأساسية في الكتاب هي أنّ البشر لهم القدرة على توليد مصادر مميزة من الأفعال فهم بمستطاعهم فعلَ أي شيء يريدون. عندما تفكّرُ في شيء ما فأنت قد تفكّرُ فيه بواسطة اللغة، أو بوسائط منطقية، أو في صيغة أشكال محدّدة، أو بهيئة صور أو هياكل رمزية ما. لو لم تنجح وسيلة من هذه الوسائل العديدة فبوسعك القفز بسرعة نحو وسيلة أخرى. هذا هو السبب الكامن وراء كوننا بارعين في التعامل مع حالات متعددة كثيرة للغاية ومتمايزة عن بعضها. كل شخصٍ منّا له القدرة على إنشاء صور عقلية أو جمل لغوية أو تسويغات منطقية.
    يمثل مسعى علماء الأعصاب لفهم الوعي consciousness ميداناً ساخناً للبحث في يومنا هذا؛ لكنك تميل إلى علم النفس (السايكولوجيا) أكثر لفهم ظاهرة الوعي، وترى أنّ علم النفس يُعاملُ بجدية أقل مما يستحق بالمقارنة مع العلوم العصبية. كيف تسوّغ هذا؟
  • لا أتعامل مع العلوم العصبية بالجدية التي يتعامل بها آخرون معها. ما يملكه هؤلاء بشأن الوعي لا يعدو بضع نظريات يجاهدون لإثباتها في تجارب معملية، وعندما لا تتفق معطيات التجارب مع نظرياتهم يظلون حائرين لا يعرفون ما يفعلون. أقدّمُ في كتبي نظرية معقولة للوعي. الوعي ظاهرة تنطوي -ربما- على ما لا يقلّ عن 16 عملية مختلفة. يرى معظم علماء الأعصاب أنّ كل فعالية بشرية يمكن أن تكون واعية أو لا؛ لكن حتى فرويد اقترح درجات مختلفة من الوعي. عندما تتحدّثُ إلى علماء الاعصاب فإنّهم يبدون متخصصين إلى حد لا ينفع في تناول ظاهرة الوعي. قد يكونون متخصصين في البيولوجيا، ويعرفون الكثير عن قنوات نقل البوتاسيوم والكالسيوم؛ لكنهم لايتوفرون على أفكار سايكولوجية معمّقة. يتوجّبُ على علماء الأعصاب أن يسألوا: ما الظاهرة التي يتوجبُ علينا تفسيرها؟ هل يمكن أن نضع لها نظرية مناسبة؟ ثم بعد هذا، هل يمكن أن نصمّم تجربة لكي نرى أية نظرية أفضل من سواها؟
    فيما يخصّ الذكاء الاصطناعي، أنت تراه أقرب ما يكون لعدسة نستطيع بوساطتها رؤية العقل وفكّ مغاليق أسرار عمله المعقدة. كيف بلغت هذه القناعة؟
  • نعم. العدسة هنا هي تخليق محاكاة simulation. لو كانت النظرية بسيطة للغاية فنستطيع حينها استخدام الرياضيات في التنبؤ بما ستقود إليه النظرية. أما لو كانت النظرية معقدة للغاية فليس أمامنا سوى اللجوء إلى المحاكاة. يبدو لي في كلّ فعالية تخصّ كينونة معقدة مثل العقل أو الدماغ فإنّ الوسيلة الوحيدة لاختبار نظرية ما هو محاكاتها والنظر في مفاعيلها الممكنة. إحدى المعضلات في هذا الأمر تكمن في أنّ الباحثين غالباً ما لا يخبروننا بما لم تحققه المحاكاة ويقتصرون على تأكيد ما حققته. حتى اليوم تبدو المقاربة الفضلى الشائعة في حقل الذكاء الاصطناعي هي عملُ نماذج (موديلات) احتمالية Probabilistic Models.
    ثمة علماء أعصاب مثل أوليفر ساكس Oliver Sacks و في. اس. راماتشاندران V. S. Ramachandran ممّن يدرسون البشر الذين حصلت لهم أعطاب دماغية. بالنسبة لهؤلاء العلماء فإنّ ما لا يحصل في بعض الأدمغة المعطوبة أكثر قدرة على إمدادنا بالمعلومات من دراسة ما يحصل فيها. هل هذا شبيه بما تراه في جوابك السابق؟
  • نعم. أنا أرى هؤلاء الذين ذكرتهم في سؤالك إثنين بين أفضل علماء الاعصاب والمفكرين في حقل العلوم العصبية. يمكن أن أضيف لهما أيضاً أنطونيو داماسيو Antonio Damasio فهو جيد للغاية؛ لكن يبقى راماتشاندران وساكس أفضل من معظم علماء الاعصاب. تكمن فضيلتهما الكبرى في أنهما يتفكّران في النظريات البديلة بدلاً من محاولة إثبات نظرية واحدة بذاتها.
    هل يمكن للذكاء الاصطناعي امتلاكُ بداهة عامة Common Sense نظيرة للبداهة البشرية؟
  • ثمة العديد من المشاريع البحثية واسعة النطاق التي تسعى لإستكشاف هذه الامكانية. هناك مثلاً المشروع الذي يشرف عليه دوغلاس لينات Douglas Lenat في تكساس والذي شرع به منذ 1984. خلق لينات نظاماً حاسوبياً ينطوي على معرفة تتأسس على بضعة ملايين من العبارات البديهية على شاكلة:” البشر يعيشون في بيوت”، أو “عندما تمطر فأنت تصبح مبتلاً”. واضح أنّ هذه العبارات جرى انتقاؤها وتصنيفها بدقة. ما لم نحصل عليه حتى اليوم هو النمط الصحيح من الاجابات (الحاسوبية، المترجمة) المناسبة التي لن يتأخر طفل في الثالثة من عمره عن تقديمها.
    ما فائدة تخليق ذكاء إصطناعي لا يستطيع التفوق على ذكاء طفل بعمر الثالثة؟
  • تاريخ الذكاء الاصطناعي لا يخلو من الطرافة لأنّ المنجزات الحقيقية الاولى فيه كانت أشياء جميلة حقاً على شاكلة أن تستطيع آلة (حاسوب، المترجمة) إنجاز براهين رياضياتية في المنطق أو حل مسائل في حساب التفاضل والتكامل Calculus. ثم بعد تلك المرحلة حاولنا جعل الآلات (الحواسيب) تجيب عن أسئلة بسيطة مثل تلك التي تجابه الطفل في كتب القراءة المبكرة. ليس ثمة آلة اليوم تستطيع فعل هذا!!. يعمل علماء الذكاء الاصطناعي بصورة خاصة اليوم على معضلات يسميها الناس شاقة Hard مثل لعب الشطرنج؛ لكنهم لم يبلغوا مراحل متقدمة في التعامل مع معضلات يراها البشر عادية تتسم بالبساطة. إحدى أهم المشاكل في بحوث الذكاء الاصطناعي التي تتعامل مع المعضلات الشاقة (مثل لعب الشطرنج) -فضلاً عن التمويل الكافي- هي انّ معظم الناس ينظرون بتشكك كبير تجاه الجدوى الممكنة من هذه البحوث.
    الذكاء الاصطناعي يشيرُ في العادة إلى استكشاف الاستخدامات النفعية الممكنة للدماغ البشري مثل فهم الكلام الطبيعي أو حل المعضلات العامة. لكننا نعرف أنّ الكثير مما يفعله البشر في فعالياتهم اليومية ليس نفعياً مثل مشاهدة التلفاز أو تأمل القصص الفنتازية (الغرائبية) أو تبادل الفكاهة. لماذا ترى كل تلك الفعاليات غير النفعية ضرورية للوجود البشري؟
  • مشاهدة المسابقات الرياضية هي تسليتي العظمى. المتعة Pleasure، مثل الألم، يحسبها الناس نوعاً من الكينونة البسيطة الفطرية المطلقة والأساسية؛ لكني أرى الأمر بمنظار آخر: المتعة هي جزء أساسي من آلية لكبح عمل مناطق معينة ومختلفة من الدماغ تماماً مثلما يحصل عند النوم. أرى أنّ المتعة يستخدمها البشر لإغلاق مناطق معينة في الدماغ سعياً للإبقاء على ذكريات الأشياء التي نسعى لتعلمها حاضرة في عقولنا. بكلمات أخرى: تسعى المتعة لكي تحافظ على الذاكرة قصيرة المدى في عقولنا من أن تذوي مع وقائع لا نسعى لتذكرها. لكن برغم هذه الخاصية العظيمة ثمة إمكانية لأن تحتوي المتعة على خطأ Bug قد يقودنا إلى نمط من الإدمان. هذا ما يحصل كما أعتقد مع محبي كرة القدم أو عاشقي موسيقى البوب او مدمني مشاهدة المسلسلات التلفازية. إنهم يكبحون أهدافهم ويفعلون شيئاً آخر وحيداً بدلاً عن تحقيق تلك الاهداف. هذا ما بتنا نشهده مع الأطفال الصغار الذين يلعبون الألعاب الحاسوبية ويدمنون عليها حتى يصبحوا مفرطي البدانة بسبب قلة الحركة.
    يبدو الأمر بعد قراءة مؤلفاتك أنك تستطيع صناعة حاسوب خارق الذكاء. هل ترى هدفك العلوي في تخليق حاسوب يتفوق على الكائن البشري؟
  • نعم وأعلى من هذا الهدف أيضاً. نحن -البشر- لسنا نهاية التطور البيولوجي؛ لذا لو كان بمقدورنا تخليق آلة لها ذكاء مماثل للذكاء البشري فسيكون من البداهة الاعتقادُ بمقدرتنا في تخليق آلات أكثر ذكاء من الذكاء البشري بمراحل عديدة. ليس من منطق في القبول بتخليق آلات تشبهنا فحسب من حيث قدراتها الذكائية. المنطق أن نسعى لآلات تفوقنا في ذكائها وتستطيع فعل أشياء نعجز عنها.
    وما الغاية من ذلك؟
  • حسناً. معدل الولادات لدينا ينخفض في الوقت الذي ترتفع نسبة كبار السن بيننا. سنحتاج بالتأكيد إلى كثرة من البشر تنهض بأعباء الأعمال المنزلية لدى كبار السن، ومن الممكن أن تقوم الروبوتات بتلك الأعمال. ثمة حاجة أخرى: هناك الكثير من المعضلات التي لا نستطيع حلها في وقتنا الحاضر، وسنحتاج بالتأكيد إلى فيزيائيين ومهندسين ورياضياتيين بقدرات أفضل من قدرات نظرائهم الحاليين للتعامل معها بفعالية منتجة. نحن في مسيس الحاجة لأن نكون صانعي مستقبلنا بدلاً من تركه لتتقاذفه الصدفة المحضة، ولو عجزنا عن هذا الفعل فربما ستختفي ثقافتنا وحضارتنا.
    هل أثّرت رواية الخيال العلمي في عملك؟
  • إنها الشيء الوحيد الذي أعمل على قراءته بانتظام بين الاعمال الروائية. الرواية العامة تتناول الوسائل التي يتعامل بها البشر مع المعضلات التي تعترض حياتهم، والكيفية التي تترتب بها حياتهم جراء ذلك التعامل. رواية الخيال العلمي تختلف عن الرواية العامة (الكلاسيكية) من جهة أنها تتناول معضلات لم يختبرها البشر بعدُ، وتقدّمُ رؤى مسبقة لكيفية التعامل معها لو حدثت في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى