المدينة وأسوارها الغامضة رواية هاروكي موراكامي الجديدة
ترجمة احمد الزبيدي
لا تبدو رواية هاروكى موراكامي التي صدرت حديثا بعنوان (المدينة واسوارها الغامضة)مختلفة تمامًا عن رواياته السابقة فهي تحتوي ذات العناصر التي اعتدنا عليها في كتابات هذا المؤلف – واسلوبه الفريد – و القصص التي رواها من قبل.
عندما نلتقي لأول مرة بالراوي المجهول الاسم في هذه الرواية نكتشف انه طالب في المدرسة الثانوية يعيش منعزلا عن الآخرين وليس له من صديق سوى قطته. في حفل توزيع جوائز للمتفوقين في المدرسة يلتقي عن طريق الصدفة بفتاة غريبة الأطوار تبلغ من العمر 16 عامًا وهي مثله تعيش منعزلة بنفس القدر عن الأخرين ولا تميز بين أحلامها والحياة الحقيقية.
يدخل هذان الشخصان الغريبان في علاقة غامضة، فيتبادلان الرسائل ويتحدثان بلا نهاية عن كل شيء. تروي الفتاة أحلامها الخيالية لفتاها، وفي لمح البصر يقع في حبها بشكل مأساوي: “لقد أسرتني كثيرًا، ولم أفكر في أي شيء آخر عندما استيقظت. لقد طاردتني في أحلامي أيضًا”.
يشتاق الصبي إلى صديقته بشدة راغبا في مطارحتها الغرام، لكن حبيبته ترفض ذلك في البداية ثم تعترف له: “أريد أن أكون ملكك تمامًا… بكل الطرق الممكنة. ” أريد أن أندمج معك في جسد واحد. أنا أعني ذلك.”
ولكن بعد ذلك، تطلب الفتاة منه أن يتم الأمر ببطء لأنها لا تمثل الشخصية الحقيقية للفتاة التي عشقها؛ فما يراه أمامه هو “مجرد بديل”، “ظل متجول” لفتاته. “أما الشخصية الحقيقية فتعيش في بلدة بعيدة، تعيش حياة مختلفة تمامًا. في بلدة محاطة بسور مرتفع ولا تحمل اسماً.”
ربما لو كان بطل الرواية شخص آخر لكان قد فهم ذلك التلميح، لكن بطلنا المتيم بها لا يسمح لبعض الارتباك الجسدي بإحباطه. فيسأل: “هل يمكنني الذهاب إلى تلك البلدة… حيث تعيش ذاتك الحقيقية؟”
يواصل الاثنان تبادل الاحاديث طوال أشهر الصيف عن تلك البلدة الغريبة، بأسوارها الغامضة، وميزاتها الغريبة،، وسكانها الذين يفتقرون إلى الظلال. ثم يتضح أن الذات الحقيقية للفتاة تعمل في مكتبة البلدة، التي لا تحتوي على كتب بل أحلام قديمة. فإذا وصل الصبي إلى البلدة، والتقى بالفتاة الحقيقية، تعده الفتاة بأنه يستطيع أن يصبح قارئ أحلام البلدة، الذي يقرأ كل الأحلام الموجودة في المكتبة.
المشكلة الوحيدة؟ إن ذاتها الحقيقية لن تتذكره، ولن يتذكرها.
يريد الصبي الحصول على فتاة تمنحه الحب، لكنها تمنحه مدينة مخيفة بدلاً من ذلك.
على الرغم من هذا كله، ينتظر بطل الرواية بتفاؤل أن تتغير الأمور مع الفتاة، وفي النهاية يحدث ذلك – ولكن ليس بالطريقة التي تخيلها أو تمناها. في نهاية الصيف، تختفي الفتاة. لا يعرف البطل أبدًا ماذا حدث لها، وتكاد قصة اختفائها، وانقطاع علاقة حبهما، ان تحطمه.
يتعافى في النهاية، ويلتحق بالكلية ويقضي العقود التالية في العمل لدى موزع كتب. ويستمر بالعيش منعزلاً عن الآخرين، لا يتوقف عن التفكير في تلك الفتاة، غير قادر على تكوين علاقات أخرى ذات مغزى.
ثم، في عيد ميلاده الخامس والأربعين، يقع في حفرة ويجد المدينة الغريبة، بجدرانها المتحركة وغرابتها ومكتبة أحلامها. فيتخلى عن ظله ويدخل اليها
إذا كنت قد قرأت أي عمل لموراكامي، فسوف تبدو لك هذه الاحداث والأجواء مألوفة جدًا. فكل ما يميز أسلوب موراكامي تجده في هذه الرواية، من البطل الكلاسيكي لجميع رواياته – الذي وصفه الناقد هاري كونزرو بشكل مثالي بأنه “شخص خامل ومنعزل اجتماعيًا تميل اهتماماته إلى سماع الموسيقى وقراءة الكتب والطهي المنزلي والقطط، وغالبًا ما يؤدي افتقاره إلى التواصل مع الواقع إلى نوع من الانزلاق إلى عالم سفلي من الأشباح والأرواح” – إلى الاختفاء المروع والمغامرات المربكة للواقع.
لكن رواية “المدينة واسوارها غير الغامضة” قد تكون مألوفة لأسباب أخرى. فهذه هي المرة الثالثة التي يروي فيها موراكامي قصة من هذا النوع ـ في رواية كانت واحدة من أولى أعماله المنشورة، والتي أعاد صياغتها في رواية “بلاد العجائب القاسية ونهاية العالم”.
في رواية مهووسة بالاشباح ـ سواء كانت الفتاة الضائعة أو الشبح اللطيف الذي يظهر في وقت لاحق من الرواية ـ ربما يكون من المناسب أن تقول ان الرواية نفسها مسكونة بتكراراته السابقة. فقصص الأشباح، في نهاية المطاف، هي نوع من التكرار، نوع من الأعمال غير المكتملة، على حد تعبير سلمان رشدي.
في خضم هذه الأحداث، وجدت نفسي منقسماً كقارئ، سواء داخل “المدينة وجدرانها الغامضة ” أو خارجها. لم تستطع ذاتي الظلية أن تتخلص من الشعور بأن موراكامي روى هذه القصة بشكل أفضل في مكان آخر، أو أن التركيز المهووس في الرواية على محن الراوي التي لا هدف لها لم يكن في صالحها، أو بناء عالمها أو عمقها النفسي. يبدو الأمر كما لو كانت الرواية نفسها شبحاً كئيباً، خالٍ من المادة التجريبية، وكانت هناك لحظات أثناء القراءة عندما اعتقدت أن النص كان يحاول تحويلي إلى شبح، منفصلاً عن المشاعر، والحقائق المادية، والواقع.
في الوقت نفسه، كانت ذاتي الحقيقية مسرورة بما تحتويه الرواية من ألاعيب غريبة، وباسلوب موراكامي، الذي (على النقيض من الشخصيات التي غالباً ما تكون بلا متعة) يكون حياً بشكل مذهل. لقد تأثرت بتصويره للخسارة المستحيلة، وكيف يمكنها أن تنحت في داخلنا عالماً سفلياً جهنمياً نلجأ إليه دائماً. ولقد فسرت حتى تقييد موراكامي للمعايير الروائية على أنه محاولة لتمثيل نوعية النفي الذاتي التي تتسم بها الأحزان الكئيبة بصورة أكثر مباشرة.
كثيراً ما نسمع حديثا عن “أسلوب أواخر العمر”، عندما يكتسب المبدعون العظماء، في المرحلة الأخيرة من حياتهم المهنية، “أسلوباً جديداً”، وفقاً لإدوارد سعيد، والذي إما أن ينضح “بإبداع وقوة متجددين، يكاد يكونان شبابيين”، أو ينتج أعمالاً “متعنتة، صعبة، ومتناقضة” تتجنب “الانسجام والتوافق”.
ولعلنا نشهد شيئاً يقترب من أسلوب أواخر العمر في الرفض العنيد من جانب موراكامي، الذي يبلغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، للتخلي عن إنسان موراكامي وحبكته ـ وتفانيه العنيد والصعب والمتناقض في العمل غير المكتمل.
لقد لاحظ الناقد جيمس بيرجر أن “الكاتب المروع يكتب وكأنه شبح نفسه”. يتساءل المرء عما إذا كان موراكامي، الذي يتسم بالتفاؤل الدائم، بعد كل هذه التكرارات الطيفية، أقرب إلى الكتابة على طريقته الخاصة.
عن صحيفة نيويورك تايمز