الهجرة العكسية: لماذا يفضل عدد من العرب العودة من الغرب إلى بلادهم الأصلية؟
بعد أن كان حلما يراود كثيرين ممن هاجروا وتركوا أوطانهم بحثا عن فرص وآفاق جديدة في الدول الغربية، باتوا أنفسهم يفكرون في العودة إلى بلدانهم الأصلية أو أي بلد عربي آخر في هجرة عكسية يسعون من خلالها إلى ترسيخ المفاهيم الأخلاقية والقيم والعادات العربية، خاصة لدى أبنائهم.
“كان دائما ببالي أن أعود إلى بلدي في يوم من الأيام”.. هكذا عبّر أبو سند، الذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ 15 عاما، خلال حديثه لبي بي سي عن رغبته الملحّة إزاء عودته إلى وطنه الأردن، لكنه لم يحدد وقتا معينا لهذه العودة حتى وقعت حادثة له ولعائلته دفعته مباشرة للعودة.
يقول أبو سند: “في أحد الأيام بينما كنتُ أصطحبُ ابني (سند) البالغ 4 سنوات ونصف السنة إلى الحضانة شاهدتُ أحد زملائه يرتدي فستانا وسألتُ المعلمة لماذا يرتدي هذا الولد فستانا؟ فأجابت: لا يمكننا أن نتدخل، ربما يشعر بأنه فتاة ولا بد أن نعزز ذلك الإحساس لديه ولا نُشعره بأنه مختلف.. هنا في هذه اللحظة اصطحبتُ مباشرة ابني وعدتُ به إلى البيت وأخبرتُ زوجتي أن هذا هو اليوم الأخير لنا في أمريكا.. كانت بمثابة رسالة ربانية لي بأن أعود إلى بلدي”.
ويضيف: “قررتُ العودة إلى الأردن كي يكتسب ابنيّ (سند وريّان) العادات والتقاليد والقيم العربية والإسلامية حتى وإن كان قرار العودة صعبا، إلا أن أولادي وعيلتي خط أحمر”.
ويشير أبو سند إلى أن “العائلة بالنسبة لي شيء مهم للغاية وأن يتربي ابنيّ بين جدهما وجدتهما وأعمامهما أفضل بكثير. ورغم التحديات الموجودة في بلدي إلا أنه لا بد من النظر للإيجابيات الأخرى، ومنها التنشئة السليمة لهما إلى جانب تمكنهما من الحديث باللغة العربية الآن”.
وفي سؤال عن أبرز التحديات التي واجهها أبو سند وعائلته لدى عودتهم، قال لبي بي سي: “إن أكثر تحدٍ بالنسبة لي يتمثل في عملي في الولايات المتحدة إذ مازلتُ أعمل هناك، حيث أمتلك شركة طباعة على الملابس موزعة على 30 محلا تجاريا في 5 ولايات أمريكية، إلى جانب عملي في مجال العقارات، وهو ما يجعلني أسافر كثيرا بين الأردن وأمريكا”.
وأضاف: “هناك تحديات أخرى في بلدي التي عدتُ إليها منذ عام واحد تتمثل في عدم وجود مناطق أو مساحات خضراء ليتمكن الأطفال من اللعب والجري فيها، إضافة إلى الافتقار لعنصر النظافة إلى حد ما، وكذلك فيما يتعلق بالإجراءات والمعاملات الحكومية التي تستغرق وقتا طويلا لإنجازها”.
ما الفرق بين الهجرة والهجرة العكسية؟
قبل الغوص في أسباب وتداعيات الهجرة العكسية، لا بد من توضيح مصطلح الهجرة عموما والهجرة العسكية، حيث يقول المتخصص في علم الانثروبولوجيا الثقافية (علم الإنسان) الدكتور عبدالحكيم الحسبان خلال حديثه لبي بي سي “إن مفهوم الهجرة عموما يعني انتقال شخص أو مجموعة من الأشخاص مكانيا بفعل عوامل اختيارية سواء اقتصادية أو ثقافية وغيرها، أو قسرية بفعل عوامل الحروب والصراعات وعدم الاستقرار السياسي”. موضحا أن الهجرة العكسية تعني “لحظة تغيير المسار المكاني والجغرافي والمعيشي”.
وأشار الحسبان أنه عند الحديث عن الهجرة العكسية لا بد من تحليل شرائح الناس التي هاجرت إذ إن “هناك من هاجر من المناطق المدنية أو الحضرية ومنهم من هاجر من المناطق الريفية، وهو ما يعني اختلاف الدوافع، فتعتبر الأرياف محافظة بالمعنى الديني والمجتمعي مقارنة بالمدن، وبالتالي فإن قرار عودة الأشخاص سيختلف تبعا لذلك”.
وهناك بالفعل بعض الأشخاص ممن عادوا إلى بلدانهم الأصلية، ومنهم من عزم نيته على العودة، والبعض الآخر لا يزال يفكر ويضع الإيجابيات والسلبيات في ميزان التقييم قبل اتخاذ هذا القرار الذي ربما إلى حد كبير سيغير مجرى حياته وحياة أبنائه وعائلته بأكملها.
“نحنا لسه ما رجعنا بس الفكرة موجودة بشدة”
أم كريم (اسم مستعار) لسيدة فلسطينية تقطن في كندا وقالت لبي بي سي: “إنني أخطط بشكل جدّي للعودة إلى بلدي مع أطفالي خاصة في ظل قوانين المثلية ونشر هذه الثقافة في المدارس وفي سن مبكرة جدا هنا في كندا، وهي قوانين لا تتماشى مع ديننا وعاداتنا وتقاليدنا كعرب ومسلمين”.
وأضافت: “يتلقى أبنائي تعليمهم المدرسي عن بُعد في المنزل وكما يقال (رُب ضارة نافعة) إذ منذ تفشي وباء كورونا بدأت المدارس بالتعليم عن بُعد، وهو ما دفعني أكثر ليكمل أبنائي دراستهم بهذه الطريقة هو القوانين الجديدة التي جرى إقرارها مؤخرا فيما يتعلق بالمثليين، لذلك أحاول تعليم أبنائي القيم الدينية والأخلاقية وغرسها في نفوسهم”.
وقالت أم كريم، وهي أم لأربعة أطفال: “نحنا لسه ما رجعنا بس الفكرة موجودة بشدة، والمشكلة تكمن في أنني لم أحصل على الجنسية الكندية بعد، كما أن البلد الذي نرغب بالعودة إليه وهو بلدنا فلسطين (محتل) وهدفي أن أعود ليتعلم أبنائي المفاهيم الأخلاقية والدينية والعادات والتقاليد العربية التي تربينا عليها”.
“ساعات بيكون ِنفسي أرجع بعدين بقول بمرحلة أولادي العمرية شبه مستحيل”
وخلال حديثها لبي بي سي، قالت سهير (اسم مستعار): “يراودني شعور متباين أحيانا ما بين العودة لبلدي وما بين بقائي هنا في أمريكا خاصة بعد أن أقمتُ فيها لنحو 25 عاما، ولدي 5 أبناء في عمر (حرج) هكذا أعتبره، إذ إنهم في عمر المراهقة وأجد من الصعوبة أن يعودوا لبلد عربي ويتأقلموا مع عاداته وتقاليده، مع أنني أحرص على تربيتهم وفق هذه القيم الأخلاقية”. وتضيف: “ساعات بيكون نِفسي أرجع بعدين بقول بمرحلة أولادي العمرية شبه مستحيل”.
وبيّنت سهير أن سهولة الحياة على حد وصفها يجعلها تفكر في البقاء وعدم العودة، قائلة: “إن الحياة هنا سهلة وسلسة، فعلى سبيل المثال هناك سهولة وسرعة في إنجاز المعاملات الحكومية خاصة أننا نعتمد على آلية الأونلاين سواء في الدفع ماليا أو المتابعة لهذه المعاملات دون الحاجة للذهاب إلى المؤسسة الرسمية والانتظار ضمن الدور لاستكمال المعاملة”.
وأشارت كذلك إلى مدى تقبُّل أبنائها لطبيعة الحياة في حال عودتهم بقولها: “لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن يتقبّل أبنائي المجتمع العربي وربما التدخلات من أكثر من شخص في حياتهم بعد أن تعوّدوا على مفهوم الخصوصية ومساحتهم الخاصة. كما أعتقد أن القيم العربية قد تغيّرت في الوقت الراهن نظرا لتقدّم التكنولوجيا وانتشار الإنترنت وثقافة (السوشال ميديا). كل ذلك يساهم في تنشة الطفل أينما كان بشكل أكبر وأكثر تأثيرا- ربما- من الأهل والمجتمع مهما حاولنا، لذلك أحاولُ جاهدة أن يحافظ أبنائي على هويتهم وأصولهم العربية من خلال إدماجهم بالمجتمع العربي هنا في أمريكا”.
حقائق وأرقام
بحسب منظمة الهجرة الدولية، فإنه يوجد نحو 13 مليون مهاجر عربي في العالم من الجيل الأول فقط. وأشار تقرير صادر عن البنك الدولي لعام 2023 الذي جاء بعنوان “تقرير عن التنمية في العالم: المهاجرون واللاجئون والمجتمعات” أن 40 في المئة من إجمالي المهاجرين على مستوى العالم تستوعبهم البلدان المرتفعة الدخل، منهم 64 مليون مهاجر لأسباب اقتصادية، ونحو 10 ملايين لاجئ. أما الدول منخفضة ومتوسطة الدخل فقد كان نصيبهما معا 43 في المئة من إجمالي المهاجرين على مستوى العالم.
وكشف تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة لعام 2020، أن الدول العربية استضافت نحو 15 في المئة من المهاجرين واللاجئين في العالم (41.4 مليون مهاجر ولاجئ). واستضافت 12 دولة من المنطقة 14 في المئة من العمال المهاجرين في العالم.
وبحسب بيانات التعداد السكاني في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2020 بلغ عدد الأميركيين الذين قالوا إنهم من أصول عربية نحو 2.2 مليون شخص من بين 332 مليون نسمة في الولايات المتحدة.
وتشير الأرقام إلى أن غالبية هؤلاء الأشخاص تعود أصولهم إلى لبنان بعدد يتجاوز 585 آلف شخص، يليهم من قالوا إن أصولهم من مصر بعدد يقارب 325 آلف، وحوالي 200 ألف شخص من أصول سورية.
كما تظهر البيانات وجود أكثر 174 ألف أميركي من أصول عراقية، وأكثر من 166 ألف أصولهم من الأراضي الفلسطينية، و144 ألف شخص من أصول مغربية، و103 آلاف شخص من أصول أردنية، وحوالي 600 ألف شخص قالوا إنهم من دول عربية من دون تحديدها.
ما الأسباب وراء الهجرة العكسية؟
أما عن العوامل التي تدفع الأشخاص للهجرة العسكية، فقال المتخصص في علم الانثروبولوجيا الثقافية (علم الإنسان) الدكتور عبدالحكيم الحسبان: “إن أبرز عامل في هذه الهجرة يتمثل في صعود اليمين في الدول الغربية ولاسيما الأوروبية حاليا، ما ينتج عنه التضييق الاقتصادي على المهاجرين ليصبحوا شرائح مهمّشة، وأيضا يؤدي إلى بيئة غير آمنة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فيتعرض المهاجرون لأحداث عنف وعنف لفظي، كما ينتج عنه تشريعات على مستوى الدولة اقتصاديا وثقافيا كمنع الحجاب وإطلاق العنان للحريات الجنسية”.
وأضاف: “إن الأوضاع الاقتصادية تلعب دورا كبيرا في الهجرة العكسية، إذ إن عددا من الدول الأوروبية كإسبانيا وفرنسا وإيطاليا باتت تعاني من ارتفاع في معدلات البطالة وتضاؤل في النمو الاقتصادي إلى جانب التضخم منذ تفشي وباء كورونا وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا. في المقابل، مازالت هناك دول عربية لديها فرص عمل أكثر وخاصة دول الخليج التي باتت بيئة مناسبة للعمل والاستثمار”.
ويبدو أن الهجرة العكسية من أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا إلى الدول العربية قد تنامت بشكل ملحوظ، إذ أشار تقرير نشره موقع “ميديا لاين” الأمريكي (موقع أمريكي مستقل متخصص بأخبار الشرق الأوسط) في مارس/آذار 2024، إلى أن دول الخليج تشهد موجة كبيرة من هجرة أوروبيين من أصول عربية للانتقال للعيش فيها، مؤكدا ارتفاع العدد في بعض دول الخليج بنسبة تزيد على 30 في المئة، إذ بدأ عددهم بالتزايد بين عامي (2023 و2024).
“التحديات بعيون المهاجر”
وأشار المتخصص في علم الانثروبولوجيا الثقافية الدكتور عبدالحكيم الحسبان: “في الحقيقة إن عيون المهاجر هي التي ترى الإيجابيات والسلبيات سواء في الدولة التي هاجر إليها أو في بلده الأصلي الذي سيعود إليه أو إلى أي دولة عربية أخرى، وذلك وفق منظومة قيمه وثقافته التي تربي ونشأ عليها، وعليه يقرر البقاء أو العودة”.
وفيما يتعلق بالتحديات التي تواجه معظم العائلات التي قررت العودة فيقول الحسبان: “ستبدأ العائلة رحلة تكيف من جديد لأن بلد المهاجر قد تغير بحد ذاته من ناحية منظومة القيم والنسق الاقتصادي وهو ما سيُحدث له صدمة جراء البيئة التي عاد إليها، وكذلك الأبناء سيواجهون مشكلة الاختلافات ما بين النسق الثقافي العربي والنسق الغربي، كمفهوم الخصوصية ومساحة الفرد الخاصة به، لكن المرحلة العمرية للأبناء قد تلعب دورا في تقريب هذه الهوة أو الفجوة، فكلما كان الأبناء أصغر عمرا تكون تربيتهم وتقبلهم للقيم أسهل مقارنة بالمراحل العمرية المتقدمة حيث ربما يرفض الأبناء العودة أصلا”.
في النهاية، ربما تختلف وتتباين الآراء حول نوستالجيا (الحنين للديار) أو قرار العودة وبين البقاء في بلد المهجر، لكن يبقى ذلك الشعور بالمسؤولية الذي يحمله كثيرون إزاء أبنائهم وبأنهم جزء لا يتجزأ من مكونات النسيج الاجتماعي سواء العربي أو الغربي، إذ يحرصون على تهيئة أبنائهم نفسيا وقيميا وفكريا واجتماعيا لمجابهة أي مواقف وتحديات في حياتهم مستقبلا.