الهند: هل فقد الاقتصاد الأسرع نموا وتيرته؟
ترسم أرقام الناتج المحلي الإجمالي الهندي صورة مقلقة، ففي الفترة ما بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول تراجع اقتصاد البلاد بنسبة 5.4 في المئة، وهي نسبة أقل من توقعات البنك المركزي الهندي، التي كانت في حدود 7 في المئة.
ويبقى الاقتصاد الهندي مع ذلك قويا مقارنة باقتصاديات الدول النامية، ولكن الأرقام تشير إلى تراجع ملموس.
ويعزو خبراء الاقتصاد هذا التراجع إلى عوامل عديدة، إذ ضعف طلب الزبائن، وتشهد الاستثمارات الأجنبية خمولا منذ سنوات، بينما تراجعت النفقات الحكومية، التي كانت دافعا أساسيا في السنوات الأخيرة، أما السلع الهندية فتجد صعوبة في فرض نفسها في السوق الدولية منذ فترة طويلة، إذ اقتصرت حصتها العالمية في 2023 على نسبة 2 في المئة.
وسجلت شركات السلع الاستهلاكية سريعة التداول فتورا في المبيعات، وتقلصت في الربع الأخير قيمة الرواتب في شركات المساهمة العامة، وهو ما دفع بالبنك المركزي إلى مراجعة توقعاته المتفائلة السابقة للنمو، إلى 6.6 في المئة للسنة المالية 2024-2025.
ويقول الخبير الاقتصادي، راجشواري سنغوبتا: “يبدو أن الأمور خرجت عن السيطرة بعد الإعلان عن أرقام الناتج المحلي الإجمالي، ولكنها كانت تتراكم منذ فترة طويلة، فهناك تراجع واضح ومشكلة كبيرة في الطلب”.
أما وزيرة المالية نيرمالا سيثارامان، فترسم صورة متفائلة للاقتصاد، إذ قالت الأسبوع الماضي إن الانخفاض ليس طويل المدى، بل كان نتيجة تقليص نفقات الحكومة خلال فترة الانتخابات، متوقعة أن يعوض النمو في الربع الثالث الانخفاض الأخير.
ومن المرجح أن يبقى الاقتصاد الهندي الأسرع نموا من بين الاقتصادات الكبرى، على الرغم من المصاعب التي يواجهها مثل ركود الرواتب الذي يؤثر على الاستهلاك المنزلي، وتراجع الطلب العالمي، وتأثير الاضطرابات المناخية على الزراعة، بحسب سيثارامان.
ويعتقد البعض – من بينهم وزراء في الحكومة الاتحادية وخبراء في الاقتصاد، ومسؤول سابق في البنك المركزي – أن تركيز البنك على خفض التضخم ربما أدى إلى خنق النمو.
فرفع نسبة الفائدة يجعل الاقتراض أغلى بالنسبة لرجال الأعمال والمستهلكين، وقد يؤدي إلى تراجع الاستثمار والاستهلاك، وهما من العوامل المساعدة على النمو الاقتصادي، فقد أبقى البنك المركزي على نسبة الفائدة ثابتة لنحو عامين بسبب ارتفاع التضخم.
وارتفع التضخم في الهند إلى 6.2 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، متجاوزا السقف الذي توقعه البنك المركزي بنسبة 4 في المئة، واستمر في ارتفاعه لمدة 14 شهرا، حسب البيانات الرسمية، وكان مدفوعا أساسا بأسعار الغذاء، إذ ارتفع سعر الخضروات التي تشكل نصف نفقات الاستهلاك بنسبة 40 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول، وهناك مؤشرات على أن ارتفاع أسعار الغذاء أصبح يؤثر على التكاليف اليومية، وهو أساس التضخم.
ولكن ارتفاع نسبة الفائدة وحده لا يمكنه أن يقدم تفسيرا كاملا لتباطؤ النمو، “فتخفيض نسبة الفائدة لا يحرك النمو إلا إذا كان الطلب على الاستهلاك قويا، فالمستثمرون يقترضون ويستثمرون فقط عندما يكون الطلب موجودا، وهو غير موجود الآن”، بحسب هيمانشو، الخبير الاقتصادي في جامعة جواهر لال نهرو، في دلهي.
أما محافظ البنك المركزي الهندي المنتهية ولايته، شاكتيكانتا داس، فيعتقد أن “نمو الاقتصاد الهندي لا يزال قائما”، مضيفا أن “التوازن بين التضخم والنمو ثابت”.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى أنه على الرغم من الارتفاع القياسي في القروض الاستهلاكية والقروض غير المضمونة – وهذا يعني أن الناس يقترضون من أجل تمويل الاستهلاك حتى عندما تكون نسبة الفائدة عالية – فإن الطلب يتراجع في المناطق الحضرية، أما المناطق الريفية فيبقى في أفضل حالاته، لأن الناس استفادوا من الظروف المناخية الجيدة ومن عدم ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وقال سينغوبيتا الأستاذ المشارك بمعهد أنديرا غاندي للبحوث في التنمية في مومباي، لبي بي سي: إن الأزمة الحالية تأكدت لأن الاقتصاد الهندي يسير بسرعتين محتفلتين تدفعهما أداءات متباينة في اقتصاديها “القديم والجديد”.
ولا يزل الاقتصاد القديم الذي يشمل القطاع غير الرسمي الكبير، بما فيه الصناعات الصغيرة والمتوسطة، والزراعة، وقطاع الشركات التقليدية، ينتظر الإصلاحات منذ سنوات طويلة.
وفي المقابل هناك الاقتصاد الجديد الذي يمثل ازدهار الخدمات والتصدير بعد جائحة كوفيد، وسجل نموا قويا في 2022 – 2023.
وكان التعاقد الخارجي دافعا كبيرا، إذ أصبحت الهند أكبر مركز للخدمات في العالم.
وبحسب شركة الاستشارات ديلويت فإن 40 في المئة من المراكز العالمية موجودة في الهند، ويرتكز نشاطها على البحوث والتنمية والتصميم الهندسي والاستشارات، وتحقق إيرادات بقيمة 46 مليار دولار وتشغّل ملوني عامل مؤهل تأهيلا عاليا.
ويقول سينغوبتا إن “تزايد المراكز حرك الاستهلاك في المناطق الحضرية، بزيادة الطلب على السلع الفاخرة، والعقارات والسيارات، ولمدة عامين إلى عامين ونصف بعد الجائحة، أدى هذا إلى ارتفاع الإنفاق في المناطق الحضرية، ولكن الانفاق الحضري بدأ في التراجع”.
ويبدو أن الاقتصاد القديم بحاجة إلى دافع للنمو، أما الاقتصاد الجديد فأخذ في التباطؤ، ويشكل الاستثمار الخاص عاملا مهما، ولكن الشركات لن تستثمر في غياب الطلب القوي، وإذا لم يتعزز الدخل لا يمكن إنعاش الطلب على الاستهلاك، “إنها حلقة مفرغة”، بحسب سينغوبتا.
وهناك مؤشرات أخرى محيرة أيضا، إذ ارتفع معدل الرسوم الهندية من 5 في المئة في 2013 إلى 17 في المئة حاليا، وهو أعلى من الدول الآسيوية الأخرى التي تتعامل مع الولايات المتحدة.
ففي زمن القيمة العالمية، التي يعتمد فيها المصدرون على الاستيراد من دول متعددة، فإن الرسوم المرتفعة تجعل السلع أكثر غلاءً بالنسبة للشركات، وبالتالي تصعب عليها المنافسة في الأسواق العالمية.
ثم هناك ما سماه الخبير الاقتصادي آرفيند سوبرامانيان: “تطورا جديدا في الحكاية”.
فعلى الرغم من النداءات إلى تخفيض نسبة الفائدة وتعزيز السيولة النقدية، فإن البنك المركزي يعمل على إنعاش الروبية المتهاوية ببيع الدولار، وهو ما يقلص السيولة النقدية، فمنذ أكتوبر/تشرين الأول أنفق البنك المركزي 50 مليار دولار من احتياطي العملة الصعبة لحماية الروبية.
فالمشترون يدفعون بالروبية لشراء الدولار، وهو ما يقلص السيولة النقدية في السوق، ويجعل السلع الهندية أكثر غلاء في الأسواق العالمية، وهو ما سيؤدي إلى انخفاض الطلب على التصدير.
وقال سوربامانيان المستشار السابق للحكومة لبي بي سي: “لماذا تعمل الحكومة على دعم الروبية؟ هذه السياسة مضرة للاقتصاد وللتصدير، ربما يفعلون ذلك من أجل الجمهور، لا يريدون أن تظهر العملة الهندية ضعيفة”.
وينبه المنتقدون إلى أن “التفاخر” بأن اقتصاد الهند هو الأسرع نموا في العالم، يعرقل إصلاحات أساسية لتحفيز الاستثمار والتصدير، ويقول سينغوبتا: “لا زلنا بلدا فقيرا، الناتج المحلي الإجمالي في الهند أقل من 3000 دولار، بينما في الولايات المتحدة 86000 دولار، فإذا قلت أننا ننمو أسرع منهم، فكلامك يصبح بلا معنى”.
وبعبارة أخرى فإن الهند بحاجة إلى مستوى أعلى من النمو المستمر لخلق المزيد من فرص العمل، ورفع الدخل.
فتحفيز النمو والاستهلاك لن يكون سهلا على المدى القصير، وفي غياب الاستثمار الخاص، يرى هيمانشو أن المطلوب هو رفع الأجور من خلال المشاريع الحكومية لرفع الدخل وتشجيع الاستهلاك، بينما يرى آخرون مثل سينغوبتا أنه يجب تخفيض الرسوم لتشجيع الاستثمار في التصدير، والابتعاد عن الصين والتوجه نحو دول مثل فيتنام.
ولا تزال الحكومة متفائلة حول مستقبل البلاد، فالمصارف مازالت قوية، واحتياطي العملة الصعبة كبير، والوضع المالي مستقر، والفقر في تراجع.
ويقول كبير المستشارين الاقتصاديين، أنانثا ناغيسواران إنه لا ينبغي أن تحمل أرقام الناتج المحلي الإجمالي الأخيرة أكثر مما تعنيه، وأكد خلال أن “النمو لا يزال سليماً”.
أما سينغوبتا فيقول إنه “من الواضح أن وتيرة النمو بحاجة إلى بعض التحفيز، لذا فإن الشكوك قائمة، إذ لا تتحمل الحكومة نتيجة طموحاتها، ولا تتخذ الخطوات اللازمة لذلك”.