الوهم كإلهام أدبي
صلاح نيازي
المقالة أدناه مجتزأة من مقالة أطول اقتضتها ضرورة النشر. هي إجمالاً تعالج الوهم وكيف طوّعه الأديب الغربي من نيكولاي غوغل إلى سومرست موم. ومن سيرفانتس إلى شيكسبير لا نكاد نعثر على شيء أو شبه شبيه لهذا في الأدب العربي.
أوّل ما يخطر على البال في هذا الباب قصة قصيرة بعنوان “الشاعر” للأديب الإنكليزي سومرست موم، ومسرحية Taming of the shrew. (تُرجمتْ إلى العربية “ترويض النمرة”).
“الشاعر” من القصص الأثيرة في الأدب الإنكليزي، لاعتبارات منها من حيث الأسلوب بساطته وعمقه ودقّته، ومن حي التأليف، إذْ هو لا يختلف عن لوحة تشكيلية، أو قطعة موسيقية. نماء يتواشج ويتآلف. يبدو سومرست موم في هذه القصة على وجه الخصوص مثل رسام تجريدي يستطيع بأقل ما يمكن من خطوط ان يرسم لوحة كاملة وكأنك ترى
تفاصيل شديدة التأثير. قال “موم” مثلاً في وصف مدينة اسبانية صغيرة تدعى “أثيخا”: الأزقة، الأزقة المتعرجة البيضاء، خالية إلاّ من امرأة بثياب سود تعود من التعبّد بين الفينة والفينة بخطوات محسوبة. “أثيخا ” هي بلدة كنائس… ومن النادر أن ترى برجاً دون أن تبني اللقالق عليه أعشاشها. على الحال توقفت لأراقب مجموعة من الحمير الصغيرة تمرّ”.
هكذا استطاع “موم” أن يختزل بلدة أندلسية بكاملها، تأريخا وجغرافية، بقليل من الكلمات. مما تتميز به هذه القصة كذلك الجو العام. فمن بدايتها حتى نهايتها ثمّة ماضٍ متألق لا يريد أن يواكب سير الزمن. حتى الشاعر نفسه وقد بلغ من الكبر عتيّاً، يرفض ان تلتقط له صورة فوتغرافية مذ بلغ الخامسة والثلاثين، لانه حريص على ان يبقى في عيون الناس نفس ذلك الشاب الوسيم الذي كان علية يوماّ ما.
بالإضافة طعّم “موم” القصة ببعض الكلمات الاسبانية زيادة في النكهة الاندلسية.
لكن ما تُعنى به هذه المقالة هو الوهم وكيف صوّره “موم”.
في البداية يعرّفنا راوية القصة بنفسه فيذكر أنه يتهرب من لقاء او مصافحة المشاهير، ولكن شاءت الصدف انْ كان بطل القصة بأسبانيا وعن طريق صديق اسباني له حصل على دعوة من شاعر مشهور جداً لزيارته، ببيته. وبين مصدّق ومكذّب حمل نفسه وذهب إلى العنوان. دق الجرس، وطلبت منه الخادمة ان ينتظر بالباحة.
أثناء الانتظار راح راوية القصة يتمعن في الموجودات حواليه فتتجسد له عظمة الشاعر في كل ما يرى، حتى الكرسي والطاولة لهما دلالة وأهمية استثائية ” هل هنا جلس الشاعر؟ ما الاحلام التي كانت تسحره، وهل المسدسان المعلقان الى جانب الباب كانا للمبارزة بين العشاق؟”
وبينما كان بطل القصة يتفيّأ أخبار الشاعر فتتجسد له صورته، فإذا به يسمع صوتاً. إنه الشاعر ينزل السلّم ببطء. كان إنساناً طويلاً وهزيلاّ جدّاً. شعره كثيف وأبيض. حاجباه كثّان. في مشيته ثقة وكرامة، وعيناه عينا نسر. إنه شاعر في كل بوصة منه”.
يقول بطل القصة: ” كنت مرتبكاً. كنت محظوظاً انني حضّرت مسبقاً عبارة ترحيبية به: “إنه لشرف رائع أيها الأستاذ البارز لإنسان أجنبي مثلي أن أتعرف على شاعر عظيم جدّاً” برقت بهاتين العينين النافذتين ومضة من السرور مع ابتسامة لوت لبرهة خطوط ذلك الفم العابس، قائلاً: ” أنا لست شاعراً يا سيد، أنا تاجر فرش. لقد أخطأتَ. الشاعر كالسينو يسكن في البيت المجاور.
لقد جئت ُ إلى العنوان الغلط.
الوهم بين يدي شيكسبير‘ ليس علة أو خللاً. إنه صناعة مختبرية كما تركّب المستحضرات الطبية.
مستحضر الوهم هذا قادر على استكناه أعمق التناقضات في النفس البشرية.
جرب شيكسبير مستحضر الوهم هذا في مسرحيتين في الأقل. الأولى مكبث، والثانيةترويض النمرة. ففي مكبث جرّبه على الشخصية الرئيسة مكبث، عن طريق الساحرات الثلاث، اللواتي زرقن فيه أخطر أنواع الوهم، حيث تنبأن له -ولو بكلمات غامضة-أنه سيصبح ملكاً، وانه لا يمكن لأحد ان يقتله إلا ذاك الذي لم تلده أمّ، وإلا إذا تحركت غابة برنام.
هاتان النبوءتان، وهما بمثابة تعويذتين، قلبتا مكبث من الضدّ إلى الضدّ، فأصبحت المسرحية أكبر دلتا دموية في تأريخ الأدب.
أما مستحضر الوهم في مسرحية “ترويض النمرة” فلا أقل مفعولية أو غرابة ففي المشهد التمهيدي Induction الأوّل نرى نادلة الحانة وهي تدفع إلى الخارج رجلاً سكران اسمه سلاي، لأنه عبّ كؤوساً من الخمرة ولم يدفع ثمنها. شتمته وهددته بالبوليس. هو بدوره شتمها بألفاظ بذيئة. ومن شدّة سكره نام على الأرض.
في هذه الأثناء يعود اللورد مع ثلاثة نبلاء من الصيد. وقعت عينه على السكران المعدم فقرر ان يجعل منه أضحوكة. هنا تبدأ مسرحية داخل مسرحية. وهذا تأليف يكاد ينفرد به شيكسبير، وجرّبها أيضاً في مسرحية هاملت.
أخذ اللورد على عاتقة مهمتين: الإخراج والتأليف. طلب من الخدم نقله إلى فراش منعّم وثير في مقصورة بقصره ووضع الخواتم بأصابعه، مع ملابس تليق بصاحب سلطان.
لم ينسَ المخرج أن يأتي بزوجة. وحين عزّت الزوجة ألبسوا غلاماً ملابس نسائية ولقنه اللورد الحركات الأنثوية وحتى الصوت الناعم الهامس.
بعد ذلك وزّع اللورد الأدوار على الخدم الثلاثة. ودرّبهم على عبارات التفخيم فما ان استيقظ سلاي حتى راح يمطره الخدم بأعلى الألقاب والعبارات التبجيلية.
من الطريف ما جاء على لسان السكير “سلاي” حينما خيّره الخادم الأوّل عن الملابس التي يفضلها. فقال له:” لا تسألني عن أية ثياب سألبس، فليس عندي سترات (جاكيتات)أكثر مما عندي من ظهور، وليس عندي جوارب أكثر مما عندي من سيقان، وليس عندي أحذية أكثر مما عندي من أقدام – كلّا ليس هذا فحسب، ففي بعض الأحيان لديّ أقدام أكثر مما عندي من أحذية عندما تخرج أصابع قدميّ من جلد الحذاء” الخادم الثاني خيره بتزيين جدران المقصورة بلوحات تشكيلية وكذلك كان اقتراح الخادم الثالث. الغريب ان اللوحات المقترحة تشمل عذارى يغتصبهن آلهة. هل قصد شيكسبير أن الإثارة الجنسية تردّ الإنسان إلى إنسانيته كما فعلت شامخات بأنكيدو السومري؟
كذا أدخل في روع “سلاي “أنه فعلاً انسان سويّ، وصاحب سلطة.
شكرهم ووعدهم خيراً. هكذا تمكن الوهم من سلاي لدرجة، أنْ سأل: أين زوجتي، وطلب من الخدم أن يتركوه ليختلي بها. إلا أنّ رسولاً جاء ليخبر صاحب السلطة بأنّ فرقة تمثيلية جاهزة لعرضٍ مسرحيّ بين يديه.
قال سلاي صاحب السلطة:” تعالي يا زوجتي، واجلسي إلى جانبي، ولينقضِ الوقت، فلن نكون أكثر شباباً أبداً.