ثقافة وفن

تربت ذائقتي القرائية على النهل من عيون القصة والرواية العالمية والعربية والعراقية معا

حاوره/ علاء المفرجي

القاص والروائي هيثم بهنام بردى، كاتب عراقي ولد في أربيل 1953م، يشغل منصب رئيس تحرير مجلة (إنانا) التي تعني بشأن المرأة. ترجمت بعض قصصه إلى اللغة الإنجليزية، والهولندية، والفرنسية، والإيطالية، والسريانية. عضو اتحاد الأدباء العراقيين، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو نقابة الفنانين العراقيين، وعضو فخري مدى الحياة في دار نعمان للثقافة اللبنانية.
صدر له: في أدب الطفل خمسة إصدارات. وفي الرواية ثلاثة إصدارات. وفي الرواية القصيرة خمسة إصدارات. وفي القصة القصيرة ستة إصدارات. وفي القصة القصيرة جدًّا ستة إصدارات. وفي الإعداد والتقديم ثلاثة كتب. وصدرت عن أدبه عشرة كتب نقدية. تناولت أدبه أربع رسائل ماجستير داخل العراق وخارجه. حائز على العديد من الجوائز العربية والعراقية. تُرجمت بعض قصصه إلى اللغات: الإنجليزية والهولندية والإيطالية.

وخلال مسيرته نال عدد من الجوائز منها جائزة ناجي نعمان الأدبية اللبنانية لعام 2006، الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة التي أقامتها دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة العراقية عام 2006 عن قصته القصيرة “النبض الأبدي”. والجائزة الثانية في مسابقة وزارة الثقافة لمسابقة أدب الأطفال/ دار ثقافة الأطفال/ جائزة (عزي الوهاب للنص المسرحي) عام 2010 عن مسرحيته الموسومة (العشبة)، و• الجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة التي أقامها قصر الثقافة والفنون في محافظة صلاح الدين عام 2011 عن قصته الموسومة (الرسالة)، وجائزة كتارا للرواية العربية – الدورة الخامسة 2019 – فئة روايات الفتيان غير المنشورة عن رواية “العَهْد”.
حدثنا عن أهم مصادر ومراجع الطفولة التي دفعتك للكتابة الأدبية، في النشأة الأولى (حيوات، مكان، أحداث)..؟ من فضلك تحدث في هذا السؤال عن صديقنا الراحل زهير بهنام.
في طفولتي احتضنتني مدينتان تختزنان إرثاً حضارياً عراقياً تليداً وهما: أربيل بقلعتها الآشورية الأثيلة، حيث ولدت وترعرعت مع اشقائي الخمس وبكر الوالدين الشاعر زهير بهنام بردى، وفيها عشت اثنتي عشرة سنة أدرس اللغة الكوردية ونتكلم في البيت اللغة السريانية ولا أعرف كلمة واحدة في اللغة العربية. والثانية بعد انتقال العائلة إلى مدينتي الأثيلة بغديدا والتي يقال أنها كانت ضمن الأطيان التي يؤم إليها الملك الآشوري، ومنهما اكتسبت مع شقيقي في رحلة الحياة والابداع زهير كل ذلك الارث الفياض بالزهو والفخار ونحن نتنفس عطر المكان المغسول بالمجد والاصالة، فليس ثمة مجال للدهشة حين يجد المتتبع لنتاجنا، زهير وأنا، شذا المكان وزهو الارث التليد الخالد والأحداث التي كانت ضياعنا وكوَرنا وقرانا ومدننا الصغيرة مسرحاً لها وفي بعضها كانت الفاصل الذي ينهي ويدشن حاضرة مدنية جديدة، فعجت أشعار زهير وكتاباتي السردية بكل ذلك الألق.
بدأت كاتباً للقصة القصيرة ثم كتبت القصة القصيرة جداً والرواية، ألا تلاحظ تراجع القصة القصيرة كجنس إبداعي أمام الرواية؟ وهل ترى أن حصول الكاتبة الكندية أليس مونرو، على جائزة نوبل باعتبار أن قصصها (الأفضل في العالم) كما جاء في حيثيات منح الجائزة، كان رد اعتبار للقصة القصيرة؟
نعم… كما جاء في تدرجات سؤالك… بدأت كتابة القصة القصيرة مطلع سبعينات القرن الماضي ونشرت إحدى محاولاتي مطلع عام 1974، ثم اكتشفتني القصة القصيرة جداً وكان ثمة وشيجة عشق متبادل فانقدت نحو عوالمها وبدأت التقصي في ناسوتها البهي ولم يكن في بالي عندما بادلتها الحب العذري بأن أُذكر كما يُذكر العشاق على مر العصور قدر ما كان ولهي وأمنيتي أن أكون متعبداً في محرابها ولا زلت ذلك العاشق المتدله بها، ثم اتجهت نحو كتابة الرواية دون أن أغادر عوالم القصة القصيرة والقصيرة جداً، وكتابتي للرواية لم يكن دافعه الموضة المتداولة في قطع العلاقة مع القصة والتباهي بكتابة الرواية كما يدعي الكثار… والنتيجة الظاهرة –وقد حصل بشكل نسبي- ترك كتاب القصة المتمكنين لهذا الفضاء العصي اللذيذ، ليس عراقياً حسب، بل عربياً يقيناً وعالمياً على حد علمي، واتجهوا نحو جنس الرواية، فدخل جلّهم في دوامة المثل العراقي: (تَيهَ المشيتين)… وما منح جائزة نوبل لأليس مونرو إلاّ برهاناً واحداً –ضمن براهين عديدة- إن للقصة القصيرة سحر لا يمكن أن تخفيه السحب وتحجب بريقه الأخاذ البروق.
هل على الكتاب البحث في مسألة تراجع القصة القصيرة أمام الرواية؟
وبدوري أسأل سؤالاً أتمنى أن يجيبني القصاصون عليه بمصداقية دون لف ودوران: هل أنتم مقتنعون بهذه الفرضية، وهل وقف أحدنا على ناصية آفاق الاستفهامات وناقش مع ذاته هذا الأمر، أنا فعلت ذلك وتمعنت بالافتراضات والاستنتاجات واستوقفتني خلاصة مفادها تتلخص بأن الرواية في الوقت الحاضر هي التي تتسيد الابداع في العالم برمته، ولكن هل تراجعت القصة القصيرة حقاً أمام هذا الفيض الهائل من تسونامي الرواية التي نرى فيها الغث وهو الغالب والسمين هو غير الراجح، فكان جوابي القاطع أن القصة تبقى تأخذ مكانها وكما كانت دوماً والى المستقبل القريب والبعيد في شعف رواسي الابداع السردي.
المشهد السردي العراقي بدأ بشكل عام بكتابة القصة القصيرة، حتى أصبح لها حضور عربي متميز وتجربة محمد خضير نموذج لذلك، لكنها مع بداية الثمانينيات أصبحت تخلي تدريجياً مكانها للرواية، بل أصبح البعض من كتابها روائيون، هل هذا التحول كان عالمياً؟ أم هناك أسباب أخرى؟
لزام على كل من اجترح كتابة القصة القصيرة في العراق وسجل له شرف ترسيخها وتقدمها فنياً، ليس فقط في تجربة محمد خضير فقط –رغم اعتزازنا بتجربته الفنية المتقدمة- بل في تجارب من سبقه بعقد من السنين كعبدالملك نوري وفؤاد التكرلي وعبدالله نيازي وغانم الدباغ ومهدي عيسى الصقر ومحمد روزنامجي، ومن جايل خضير كمحمود جنداري وجليل القيسي وعبدالرحمن الربيعي وغازي العبادي وفهد الأسدي وعبدالستار ناصر وموسى كريدي… وسواهم الكثير الكثير ومن الأجيال اللاحقة بالتأكيد، وإن كان جلّهم بدأ مسيرته مع القصة ومنهم من كتبها بتمكن ونضوج ومن ثم تحول إلى كتابة الرواية، وأغلب ظني إنه لم يفعل لقصور في كينونة القصة أو شيخوختها أو عجزها، بل فعل ذلك تماشياً مع الموضة أو الفيروس الذي تلبس القصاصين، وإن غربلنا الحصيلة بتجرد وبموضوعية وبلا تحيز، نجد أن القصة لم تفقد هويتها، فإن حصل هذا من ناحية الكم، فإنها بقيت متراصة متماسكة متآصرة من ناحية النوع، وأنها تمشي مع الرواية بخطٍ متوازٍ، ولن تكل أو تتعب أو تخلي مكانها للرواية قط.
ما الذي يشكله المكان بالنسبة لك وهل إنعكس على طبيعة كتاباتك خاص، بوصفك عانيت من اقتلاعك من مكانك الأول فعل التهجير ما مدى تأثير ذلك؟
منذ الشهيق الأول والصرخة الأولى للجنين تتشكل حوله معالم المكان بكل تجلياته منذ الملاءة الأولى والغرفة البيضاء الأولى بكافة تفاصيلها من وجوه آدمية جذلة وسرير صغير بملامح محددة تقرنصه دمى وأجراس وانتهاء بالسقوف والفضاءات مروراً بالأثاث والأشياء، هذا هو الرحم الأول لأرحام عديدة يلبد في أجوافا الانسان منذ المهد الأول وحتى المهد الأخير,,, وفي تفاصيل هذه الرحلة تتأصل عنده الأماكن القصية البكر التي تتماهى مع سيرورته الحياتية لتنبي على هذا الاساس وشيجة سيامية لا تنفصل مهما تطور العلم والمعرفة ففي حالة فصلهما تموت تلك الخصيصة التي تمهر ذاتهما “الانسان/ المكان”، وهذا ما عانيته إبان التهجير القسري من بغديدا مدينتنا الأثيلة والتي كانت هي السباقة في أن كتبتني بمصداقية أقف أمامها مندهشاً وروحي مغسولة بهذا الكنز الباذخ من المحبة والتماهي والتآصر والتنرفن، فكانت مخطوطتي (ما رآه الفتي) التي تنتظر الطبع وتصدر قريباً ككتاب بجزئها الأول ضمن سلسلة سيرية بثلاثة أجزاء.
وثمة معادلة تبرهنت في الواقع، فلكوننا تهجرنا من بغديدا مدينتنا “النبع المتمم” إلى أربيل مدينتنا “النبع الأول” صيف عام 2014، وفي صباح ما ونحن نتمشى “شقيقي زهير وأنا”، وقفت بغتة أمام فم سوق “شيخ الله” الشهير وقلت لشقيقي ورفيق رحلتي الحياتية والابداعية.
زهير، أستطيع أن أذهب إلى بيتنا الأخير قبل انتقالنا إلى بغديدا متتبعاً قدحة أومضت في ذائقتي.
ولكون زهير يكبرني بعامين، وهاتان السمتان تجعلان الانسان يعاضد المكان أكثر ممن يصغره بعامين، قال بلهجة العارف.
هلم اسبقني وأنا أتبعك.
فتبعت مسبار الذاكرة المعجونة بأريج المكان، وما هي إلاّ دقاق إلاّ وكنا أمام باب آخر بيت تركناه قبل خمسة عقود وأنا صبي في الحادية عشرة من عمري، وصدقني رأيت البيت يتحول إلى أم رؤوم حنونة تمد ذراعيها لاحتضاني.
نعود إلى فن القصة القصيرة جداً، وأنت أحد أبرز كتابها في العراق، ما الذي يدفعك للخوض فيها، أهو عدم امتلاك النفس الطويل للكتابة أو بسبب سمة العصر السريعة؟ وإن كانت فناً له حضور، فلماذا برز؟ وما الذي تحمله القصة القصيرة جداً من الميزات عن القصة القصيرة المتعارف عليها؟
في توطئة إجابتي… أشكرك على هذا الاطراء لتجربتي المتواضعة في كتابة هذا الجنس السردي… الذي دفعني إلى كتابتها ليس لأنني لا أحمل نَفَساً طويلاً في كتابة القصة القصيرة، فأنا بدأت في القصة القصيرة ونشرت بداياتي فيها، بَيدَ أن تحولي إلى كتابة القصة القصيرة جداً لم يتأت قطعاً بسبب سمة العصر السريعة كما ورد في سؤالك، ولكنها تأتت من خلال فارقتين. الأولى: قلتها مرة أنني عندما كنت أقرأ لكبار الكتاب قصصهم القصار كانت لي رغبة أن أمسك بقلم أحمر وأحذف الزيادة والافاضة وأجزم أن الكاتب يمكن أن يستخدم لغة أخرى مقتصدة مشفرة موحية تلغي أسطراً عديدة، وهذا ما قادني في المستقبل لأن ألج الفارقة الثانية: وكانت مجموعة (الرعد) القصصية لزكريا تامر والتي وجدت أن العديد من قصصها تطابق رؤيتي رغم أنه لم يجّنسها كقصص قصيرة جداً، فكانت النافذة التي شرعها تامر أمامي كي أراجع دوائرها وأكون أحد مواطنيها المتواضعين.
وأوجز الفروقات القارّة بين القصة القصيرة جداً وصنوها القصة القصيرة، وكلتاهما متوالدتان من رحم واحد ويحملان هوية واحدة- وكما أوردتها في كتابي [ القصة القصيرة جداً/ الريادة العراقية] الصادر عن دار غيداء للنشر والتوزيع بعمّان عام 2016 وأورد أهمها: (فالزمان في القصة القصيرة جداً لمحة قصيرة أو ساعة أو يوم وبعض يوم وفي الأخرى مفتوح. والمكان في الأولى يتحدد بأبعاد مادية لا تتعدى غرفة أو حيّزاً من فضاء… الخ، وفي الأخرى يمكن أن ينتقل من مكان إلى آخر، والحدث في الأولى يفضل أن يكون محصوراً في مسألة واحدة وشأن محدد، وفي الأخرى يتشكل في أكثر من مسألة واحدة يتناولها القاص برؤى متعددة….) وقس على ذلك فروقات عديدة في البناء “المقدمة… الذروة… النهاية”، وزاوية السرد، والوصف… الخ، والتي لا يتسع المجال لذكرها الآن.
هل وضعت ناتالي ساروت وهي أول من كتبها في (إنفعالات)، قواعد لها مثلاً؟ أم انك ترى أن (أو هنري) أول من فتح الأفق الرحب لهذا الفن؟
أُثير لغط كبير حول ماهية “انفعالات” ساروت كما ترجمها فتحي العشري في كتابه الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1971، وعنونه بقصص قصيرة جداً، وساروت لم تُسّمِها قصصاً قصيرة جداً حين أصدرتها عام 1938 وهي كما وسمتها ب tropisms” – انفعالات”، والتي اقترح العراقي نهاد التكرلي بأن توسم ب “إنتحاءات”، والمعروف أن ساروت لم توسمها بهذا الجنس على متن الغلاف حتى بعد إعادة طبعها عام 1957، بل تركته بلا تجنيس. ويخبرنا الناقد زهير مسعود في موقع الناقد المغربي الدكتور مسلك ميمون: (ففي مقابلة أجرتها صحيفة باريس ريفيو مع الناقدة ناتالي ساروت عام ١٩٩٠ فقد أكدت الكاتبة ناتالي بأن ما كتبته هو الرواية الفرنسية الجديدة وليس ما أطلق عليه الأدب العالمي بالقصّة القصيرة جداً)، وأياً كان الرأي الراجح من غيره فأنني عندما قرأت الكتاب أكثر من مرة تيقنت أن نصوصها المرقمة من (1 – 32) تنتمي تماماً إلى فن القصة القصيرة جداً بكافة مواصفاتها المعروفة. وأنا موقن أيضاً أن ساروت ليست الرائدة في هذا الجنس السردي فهناك الكاتب الامريكي أو هنري الذي كتب قصته (موعد الساعة الثامنة) مطلع القرن العشرين والتي أعدها بداية تدشين هذا المصطلح بشكلها الفني المعاصر وقبل الرائد “العراقي/ العربي” نوئيل رسام بعقدين من السنين، وأيضاً الأمريكي أرنست همنغواي، والغواتيمالي أوجستو مونتيرسو، والمكسيكي لوي فيليبي… ومجايليهم والذين كتبوا نصوصاً هي أقرب إلى قصة الومضة flash fiction من القصة القصيرة جداً short short story.
ما رأيك بما يكتب في مجال القصة القصيرة جداً، هل ترى انها بحضورها استطاعت أن تشكل نوعاً جديراً بالدراسة؟
لا بد لي أن أعرج على إشارة ذكرتها نهاية إجابتي على السؤال السابق وأقول: لقد اختلط الأمر على كتاب هذا الجنس المعاصرين في وقتنا الراهن، فهم لم ينتبهوا إلى الفروق الموجودة بين القصة القصيرة جداً وقصة الومضة، فاختلط الحابل بالنابل، فصار كل من يكتب بضع كلمات لا تنطوي على أية وحدات بنائية أرسطية (المكان/ الزمن/ الحدث) فضلاً عن الشخصية، وخصائص أخرى تشكل بنيان القصة القصيرة جداً عن خصائص قصة الومضة المتمثلة ب (الوحدات التي تتوافر حتى في لمحة وامضة وأقصد بها: الزمان والمكان والحدث… والمقدمة والذروة والنهاية لا تتجاوز السطرين أو ثلاثة مع التوكيد على تواجد القفلة المدهشة الصادمة… ويجب التقتير في الوصف… وتتفق أغلب التنظيرات على أن لا تقل عن ست أو سبع كلمات ولا تتجاوز العشرين كلمة.)، وهذا الخطل في الفهم قاد النقاد إلى الانجرار وراء هذا الخطل والفوضى في الترسيخ والهوية، ولكن هناك من النقاد من أضاء جوانب القصة القصيرة جداً المشرقة وقدمها للوسط الثقافي بعد أن تناول الثمرة الناضجة ممثلة بالعديد من المجموعات القصصية التي تباهت بالمصطلح على أغلفها ومتونها بالدراسة والتحليل والاستنتاج مبشرة بنضوج هذا الجنس السردي الجديد.
لديك أسلوب خاص في إدارة الحوار في أعمالك القصصية، باعتبار أنه ينهض على تجسيد الصراع وحركة التوتر بين الذات والآخر من جهة وبينها وبين نفسها من جهة أخرى، بالإضافة إلى المفارقة التي هي من أهم الأساليب الدرامية التي تعتمدها؟ ما تعليقك؟
منذ البواكير تربت ذائقتي القرائية على نهل من عيون القصة والرواية العالمية والعربية والعراقية، وكان الحوار فيها تقريباً أحد الأعمدة المهمة التي قوّمت أسس البنيان السردي، وعندما بدأت الكتابة تفردت بهذه الخصيصة، والحوار عندي لم يكن البتة كلاماً عادياً لا يسمن ولا يغني، بل أزرع في تربته الخصائص المخبوءة للشخوص والتي تتمظهر بالتدريج من خلل الكلمات المبثوثة بينها الجمل كمفاتيح للولوج إلى عمق الشخصية ورؤاها وارهاصاتها، وبما يجلي الذات الخالصة من جهة وتعاشقها أو تنافرها مع الذات الأخرى ليتمخض عنها كنه الصراع والتوتر والتضاد من خلال ما تنبس به الشفاه والتي هي شفاه الذاكرة والكينونة والحشية، وهذا ما أشار إلى هذه السمة في قصصي ورواياتي مع تأكيدهم أن الحوار في قصص وروايات هيثم ليست لتوسيع المساحة بل لتوسيع الذائقة المتلقية وتفاعلها مع الحبكة والنص.
هل اكتسبت برأيك الرواية العربية مكانتها، أو لنقل هويتها الخاصةـ في مقابل محاكاتها للرواية الأمريكية اللاتينية التي احتلت المشهد الروائي العالمي خلال الخمسة عقود الأخيرة.. محاكاة وصلت حد التقليد؟ ماذا تقول؟
الرواية العربية عمرها أكثر من قرن، وهذا العمر النسبة للكائن الحي يكون المرحلة الأخيرة من زمن ما قبل الموات، إي إنطفاء الجذوة، ومن مرحلة المهد إلى اللحد يكتسب الكائن الحي هويته الخاصة وكينونته المطلقة من ناحيته بشكل شخصي، وينعكس مع أقرانه في تجسيد المرحلة التي يعيش فيها ويتوسم وتتوسم به، وعليه يمكن أن نطلق على التجربة الحياتية والجمعية بالهوية أو الخصيصة المتماثلة أو المتعاكسة، وهذا هو بالتحديد ما عثرت عليه التجربة السردية في الواقعية السحرية الذي مهرت نتاج السرد في قارة أمريكا اللاتينية وكان لها تأثيرها البيّن على النتاج السردي العالمي، وكان للتجربة الروائية العربية نصيبها الوافر في المحاكاة حد التقليد على حد وصفك، وإنني أرى الشفرة المغيبة المطمورة في الذائقة الابداعية الفردية والجمعية ماثلة لناظري وأشير –كما أشرت في مقال سابق- إلى التجربة العراقية في السرد الروائي إن كانت تبحث عن هوية عليها بالمحلية، ولا شيء سوى المحلية، من خلال توظيف الموروث المحلي معجوناً بالزمان والمكان والتاريخ، فمثلما انطلق غابرييل غارسيا ماركيز وأقرانه نحو العالمية من خلال المحلية البحتة بكل حشاياها وشمائلها علينا أن نغوص في محليتنا لنقتنص المحار الحامل باللؤلؤ وننطلق نحو العالمية من خلال التأصيل وليس المحاكاة والاستنساخ، وما ينطبق على العراقي ينطبق على العربي بدون شك.
كيف برأيك أن يكون للمثقف العراقي دوراً في ما يحدث بمجتمعه وبلده والاسهام بأن يبدأ دوره بشكل أعمق من مجرد خطابات وكتابات بجعل أفراد المجتمع تعي أولاً وجودها من خلال معرفة الذات وتحديد كينونتها؟
في البدء لا بد لنا أن نعرف من هو المثقف، وما هي ماهيته وما هي خصاله، فهو في المفهوم الاصطلاحي كما أورده الدكتور ابراهيم أحمد الشافعي في موقع “ألوكة”:
(ناقدٌ اجتماعيٌّ، “همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية”، كما أنه الممثِّل لقوَّةٍ محرِّكةٍ اجتماعيًّا، “يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية”).
والذي وجدته أقرب سمة للمثقف التنويري، وهنا يتحدد ضمن هذا المفهوم دور المثقف العراقي ككائن مستقل يحمل هموم الانسان دون الانضواء خلف قضبان دوائر ضيقة تجعله حبيس مفاهيم همها تجهيل المجتمع فرداً وجمعاً لغايات فئوية، فيكون للمثقف –والأديب معني بذلك قطعاً- أن يقفز حواجز التكبيل وينتضي الحق ويتقدم الصفوف نحو مناهل الحق والمعرفة والعدل والمساواة.
كتبت الرواية القصيرة ولك فيها اصدارات عديدة، حدثنا عنها؟
الرواية القصيرة NOVELLA تنتمي إلى جنس الرواية NOVEL ولكنها تتميز عنها ببعض السمات منها أنها (أكبر من القصة وأصغر من الرواية… وصف مختصر موحي لا يحتمل الاطالة… شخصية محورية تدور في فلكها شخصيات ثانوية مساعدة… استهلال مختزل موحي بعدد يسير من الأسطر وأحيانا بسطر واحد… تعتمد التلميح دون الافصاح… تعتمد عادة على حدث مركزي محدد)، وجرب كتابتها أقحاح الروائيين العالميين والعرب والعراقيين مثل توماس مان، وأرنست همنغواي، وجون شتاينبك، وجوزيف كونراد، وأنطون تشيخوف، وأدغار ألان بو، وستيفنسن، وماركيز، وكاواباتا، وكونديرا… وسواهم الكثير الكثير، وكتب فيها الروائيون العرب مثل يحيى حقي، ونجيب محفوظ، وغسان كنفاني، وغالب هلسا، واسماعيل فهد اسماعيل، وسميحة خريس، وإبراهيم عبدالمجيد، وفؤاد التكرلي، وعبدالرحمن الربيعي، وأمير بولص ابراهيم، وسمير اسماعيل… والكثير غيرهم، وقد تشرفت بكتابة سبع روايات قصيرة كان لها صدى في نفوس القراء والنقاد فقد كتبت عنها بحوث ودراسات من مصر والجزائر والمغرب، فضلاً عن دراستين للدكتوراه في مصر والعراق وشهادة ماجستير في الجزائر، وفي اعتقادي أن هذا الفن سيسجل له مداه في المستقبل القريب والبعيد.
كيف ترى المشهد الروائي والقصصي في العراق؟
جداتنا بعد أن يقوم أزواجهن بذري المحصول وتتساقط حبات الحنطة في كومة كبيرة وهي تعج بالزؤان كن يعمدن إلى الغربال فتنهمر الحبوب الذهبية في الأهراء المهيئة لاستقبالها ويبقى الزؤان في جوف المنخل فيُلقى خارجاً… أستطيع أن أشبّه المشهد الروائي تحديداً بما أوردته أعلاه، فالكثير من “الروايات: عبارة عن سِيَر حياتية للمبدعين أنفسهم يمطونها بدون مبرر ولا يتمنطقون بحزام أسس الكتابة الروائية الرصينة لتصدر العشرات من الروايات، ولكنها –والمعذرة عن قسوتي- جلّها تحتاج إلى الغربال، أما ما ينثال منه من روايات ناضجة معجونة بالسرد المتقن البهي فينبغي أن نرفع لها قبعاتنا، وأنا موقن تماماً أن ثمة أكتاف صلبة هي التي ستحمل النير على أكتافها وتقدم للعرب والعالم رواية عراقية قح جديرة بالفخر. أما القصة القصيرة في العراق ففي يقيني تبقى تحمل لواء التجديد ولها مكانتها في مسيرة القصة العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى