جامعات النخبة تفتح أبوابها أمام الثورة الرقمية
جويس كارول أوتس، واحدة من أحبّ كُتّاب الرواية إليّ، ومعرفتي بها بعيدة، تمتد لعقود طويلة، قرأتُ لها كثيراً من رواياتها المترجمة وغير المترجمة. هي ليست كاتبة رواية فحسب؛ بل شخص متعدّد الانشغالات: أستاذة جامعية مرموقة، تشغل موقعاً مميزاً في جامعة برينستون النخبوية الأميركية، منذ ما يقارب أربعين سنة، فضلاً عن كونها مترجمة، وكاتبة مقالات وقصة قصيرة، وشاهدة على تحوّلات العصر الأميركي والعالمي.
أعرف من خبرتي الطويلة مع أوتس أنها تدرّسُ مادة «الكتابة الإبداعية» (Creative Writing) في جامعة برينستون؛ لكني اندهشتُ إذ وجدتها تروّجُ لمقرَّر دراسي رقمي عنوانه «MasterClass»، لا يكلِّفُ المرء سوى 15 دولاراً في الشهر، وتلك كلفة لا تُعدُّ شيئاً مذكوراً بالمقارنة مع آلاف الدولارات التي يتطلّبها القبول في برنامجها الدراسي بجامعة برينستون. الأمر لا يحصل بمحض صدفة، أو توجّهات رغبوية منفلتة، لا تجري الأمور على هذا النحو في المجتمعات المتقدمة تقنياً وعلمياً.
ثمة أمور دافعة لمثل هذه التحوّلات الدرامية في نمط التعليم الجامعي، وسرعة انفتاحه على التقنيات الرقمية، أظنُّ أنّ جواباً وافياً وجدته في كتاب منشور أواخر عام 2023، كتبه البروفسور مايكل دي. سميث (Michael D. Smith)، عنوانه: «الجامعة المتاحة للجميع… إعادة تشكيل التعليم العالي ليتناغم مع عالم رقمي» (The Abundant University: Remaking Higher Education for a Digital World).
يعمل مؤلف الكتاب أستاذاً للتقنية المعلوماتية والتسويق بجامعة كارنيغي- ميلون الأميركية، وهو مُولَع بدراسة الكيفيات التي يمكن عبرها للتقنيات الجديدة، (وبخاصة تقنيات صناعة الترفيه)، لعبُ الأدوار العظيمة في قدرة التأثير على الأفراد والشركات معاً.
الكتاب من منشورات معهد ماساتشوستس التقني، وتلك إشارة إضافية إلى جدّية التغيير الرقمي الذي سيطول التعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم بأسره، معهد «MIT» هو أقرب إلى الأب الأكبر، أو المطبخ التقني الأعظم إذا شئت، للتقنيات الحديثة، وسيكون لأي كتاب منشور عنه يبشرُ بالثورة الرقمية القادمة وقعٌ عظيم، لا يمكن التغافل عنه.
المدهش في مقدّمة الكتاب أنها تقدّمُ جواباً لتساؤلي السابق؛ حيث يؤكدُ المؤلف أنّ التعلّم من خبرة أوتس بطريقة مباشرة، وبالكيفية الجامعية التقليدية، يُعدُّ امتيازاً عظيماً، تحظى به قلّة مخصوصة فحسب، ولكي يوضّح المؤلف الأسباب التي تقف وراء هذا، يُورِد إحصائيات مثيرة؛ حيث تقدَّم عام 2021 بطلبات الدراسة في مقرّر أوتس للدراسة الإبداعية 37601 متقدم، قُبِل منهم 1498، أي ما نسبته المئوية 3.98 في المائة، وهي نسبة ضئيلة للغاية، هذه النسبة الشحيحة ستعمل -مثلما عملت في عقود سابقة- على ترسيخ سياسات «الشحّة» (Scarcity Policies) في التعليم الجامعي، ومن بعض مفاعيل هذه السياسات أنّ المرء يضطرُّ إلى التضحية بمال كثير، مشفوعاً بتوصيات عديدة، تؤكّدُ قدرته وتفوقه على الآخرين، واستكماله لشروط البرنامج الدراسي الذي يريد الالتحاق به.
تطلّب الالتحاق ببرنامج أوتس في الكتابة الإبداعية لعام 2021 (وهو جزء من المتطلبات المالية للالتحاق بجامعة برينستون) 80 ألف دولار في السنة! إلى جانب متطلبات أخرى مُجهِدة.
تغيَّر الأمر عندما أعلنت أوتس عن برنامجها الدراسي «MasterClass» لتعليم فن القصة القصيرة، لقاء 15 دولاراً في الشهر، وفرة في المادة التعليمية ووسائط اكتسابها، مقابل شحة في الدولارات التي يدفعها المرء.
يبدو أنّ السياسة التعليمية الجامعية انعكست؛ إذ بهذه الدولارات الشحيحة يمكن للراغب ولوجُ تجربة تعليمية عالمية مرموقة المواصفات، متاحة كل حين وفي كلّ مكان، باستخدام هاتف ذكي، أو حاسوب محمول، أو أي مشغّل وسائط رقمية أخرى، ربما لن يحصل المنخرطون في هذه التجربة التعليمية الرقمية على الخبرة ذاتها التي سيحصلون عليها لو حضروا الصفوف الدراسية التي تُحاضِر فيها أوتس شخصياً.
هذا صحيح، وصحيحٌ أيضاً أنّ أوتس لن تخصّص لهم من وقتها مثلما تفعل مع طلبتها في برينستون؛ لكن تبقى التجربة الرقمية مثيرة وواعدة بكثير من النتائج الطيبة. هذا ما يؤكّده كثير ممن حضروا الصفوف الرقمية.
أحدُ مؤشرات نجاح التجربة أنّ كثيراً من كُتّاب الرواية العالميين جعلوا من أوتس نموذجاً صالحاً للتمثل والمحاكاة، ومن هؤلاء: مارغريت آتوود، ومالكولم كالدول، وآمي تان.
ولم يقتصر الأمر على كُتّاب الرواية؛ فهناك مثال عالم الاقتصاد المميز بول كروغمان، وأستاذة التاريخ الأميركي دوريس كيرنس غودوين، وأستاذ الصحافة الشهير بوب وودوورد، المعروف بحنكته الاستقصائية اللامعة.
ينتابُ كثيراً منا كثيرٌ من الشكوك والريبة بشأن قدرة التعليم الجامعي الرقمي، ولنا معاذيرنا المسوِّغة لشكوكنا. لو وضعنا جانباً أننا نميل لمعاكسة كلّ انعطافة تقنية بفعل ضواغط التقاليد الراسخة، فإنّ الأمر يتطلبُ بعض المراجعة التاريخية.
ظلّت الجامعات والكليات عبر القرون الخمسة الماضية (دعونا نتذكر أنّ جامعتَي أكسفورد وكمبردج تأسَّستا بدايات القرن الثالث عشر!) مؤسسات تتمتع باستقرارية راسخة؛ كونها جزءاً من الحكاية الوطنية (National Story) لكلّ بلد تأسست فيه، وفي هذا الشأن يُورِد كلارك كير، وهو رئيس سابق لإحدى جامعات كاليفورنيا، أنّ الجامعات والكليات كانت بين القلة القليلة من المؤسسات الخمس والثمانين التي بقيت محافِظة على هيكليتها الأساسية منذ عام 1520؛ لذا كانت لها كلّ السطوة الثقافية والهيمنة الفكرية التي عُرِفَت بها.
ومن الواجب والبديهي أن نتساءل: كيف حافظت الكليات والجامعات على سطوتها الثقافية والفكرية كل هذه القرون؟ الجواب يكمن في إدارتها لسياسة «الشحة»، واعتمادها نموذجاً يقوم على «الشحة»، ويتأسس نموذج «الشحة» الجامعية على معالم ثلاثة:
المَعْلَم الأول: شحة المدخلات الجامعية (محدودية أعداد الطلبة المقبولين، بالمقارنة مع أعداد المتقدمين للدراسة، ومحدودية أعداد الدارسين في الصف الدراسي).
المَعْلَم الثاني: شحة الوسائل التعليمية (محدودية أعداد خبراء التعليم والأساتذة الجامعيين المؤهَّلين تأهيلاً عالياً).
المَعْلَم الثالث: شحة المُخرَجات الجامعية (محدودية أعداد حملة الشهادات الجامعية بالمقارنة مع غير الحاصلين عليها، ومحدودية أعداد الجامعات والكليات ذات الشهرة العالمية).
عنوان التعليم الجامعي الكلاسيكي هو الشحة، وهذه الشحة يراها راسِمو سياسات التعليم العالي وسيلة تنافسية، تُبقي على جذوة الرغبة في التعلّم متّقِدة في الأرواح، بعيداً عن الابتذال والاستسهال اللذَين يُوهِنان الأرواح الفتية.
من الطبيعي أن قانون حصر التعليم العالي بين قلّة منتخَبة سيكون هو السياسة المتبَعة؛ لعدم قدرة التعليم الجامعي المتّسم بالشحة على الإيفاء بكلّ الاحتياجات التعليمية للجميع. هل نتخيل المشهد الجامعي في ظلّ سياسات الشحة؟ أعداد هائلة من الراغبين في التعليم الجامعي الأوّلي والعالي ستتقاتلُ على مقاعد محدودة.
وسيدفع هذا الأمر لزيادة الأقساط الجامعية سنوياً، حتى بلغت مستويات فلكية، إنها سياسة العرض والطلب التي تعمل بكلّ قوتها طبقاً للاقتصاد الكلاسيكي. يكفي أن نعلم أنّ الخريجين الأميركيين عام 2020 حملوا على أكتافهم عبء قروض جامعية بلغت 1.7 تريليون من الدولارات، وهنا لن يكون غريباً أن نفهم السبب في كون هذه القروض عُرضة للألاعيب الانتخابية الأميركية، تماماً مثل برامج الرعاية الصحية.
صار من الواضح لصانعي السياسات التعليمية الجامعية في أميركا، أنّ النظام الجامعي الحالي يفشل، ومعالم هذا الفشل تكمنُ في ابتعاده عن تمثّل الحدّ الأدنى من العدالة والمساواة بين المتقدمين؛ لأنّه يحابي المقتدرين مالياً دون سواهم، وخصوصاً في نطاق جامعات النخبة (Ivy League)، ثمّ هناك الاستطلاعات الحديثة التي أبانت أنّ 11 في المائة فحسب من قادة الأعمال يرون أنّ خريجي الجامعات الأميركية يفُون بمتطلّبات دفع عجلة التقدم التقني والمالي في مشاريعهم الكبرى.
الجامعات والكليات الأميركية بتكاليفها الفلكية صارت على المحكّ القاسي، ولا بدّ على الأقل من مراجعة السياسات الجامعية. هنا من المفيد أن نتذكّر أنّ أقطاب التقنيات الأميركية الرقمية لم يكملوا دراساتهم الجامعية بصورة نظامية؛ الأمر الذي جعل منهم نماذج أيقونية كبرى يسعى الشباب الأميركي لمحاكاة تجاربها.
ما البديل المناسب والأكثر معقولية ومقبولية، والأقل كُلفة، والأنسب للاحتياجات الشخصية من التعليم الجامعي التقليدي؟ إنه التعليم الرقمي بلا شك، هذه هي كل الحكاية ببساطة.
*****
يمكن تلخيص فكرة الكتاب في المؤشرات الأربعة التالية:
– نظام التعليم العالي الحالي لم يَعُد من الممكن إدامته مالياً وأخلاقياً.
– معضلة التعليم العالي الحالي هيكلية، بمعنى ليس بالمستطاع علاج أمراضه باللجوء إلى نموذج الشحة. لا بدّ من نموذج وفرة (Abundance) بديلاً عن الشحة.
– التقنيات الرقمية تمثّل انعطافة ثورية تُتيح لنا اعتماد نظام تعليم جامعي بديل يقوم على الوفرة.
– للمساهمة في الثورة التعليمية الجديدة، يجب على العاملين في التعليم الجامعي إعادة تشكيل رؤاهم للتعليم الجامعي، بُغية تعظيم مشاركتهم فيه، بدلاً من أن يكونوا عصاً تُعيق مساره. التغيير قادم لا محالة، ومن المفيد للجميع تسهيل أمر التحوّل بأقلّ التكاليف الممكنة.
قد يبدو الكتاب غارقاً في المحلية الأميركية؛ لكنه يحكي حكاية سنواجهها جميعاً أينما كنا، وسيكون من المفيد التحسّبُ لها ومواجهتها، والاستفادة العظمى من تجارب من سبقونا في التعامل معها.