جوديث بتلر تكتب عما يدور في غزة من عنف وادانة العنف
ونشر مقالا للفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر في موقع لندن ريفيو اوف بوكس والذي تابعتها (المدى)، انه، القضايا الاكثر طلبا للنقاش العام، القضايا التي تتطلب ان تناقش على نحو عاجل، هي القضايا التي يصعب نقاشها ضمن الاطر المتوفرة لنا الان. رغم ان المرء يرغب الدخول مباشرة في القضية التي بين ايدينا فان آخر يقف ضد حدود الاطر التي قد تجعل من المستحيل البوح بما يجب قوله. اريد ان اتحدث عن العنف، العنف الذي يدور حاليا، وتاريخ العنف واشكاله المختلفة. ولكن لو كان هناك من يرغب بتوثيق العنف، الذي يعني فهم القصف والقتل الشامل في اسرائيل من قبل حماس كجزء من ذلك التاريخ، فانه قد يتم اتهامه الانحياز للنسبية والمحتوى السياقي. علينا ان ندين او نصادق، هذا شيء معقول، ولكن هل هذا هو كل ما هو مطلوب منا اخلاقيا؟ في الواقع، انا ادين العنف الذي ارتكبته حماس، ولكن هناك في المقابل ردود افعال اخرى ايضا يجب اخذها بنظر الاعتبار.
كل الناس الان تقريبا تريد ان تعرف مع “أي جانب” انت، ومن الواضح ان الرد الوحيد المحتمل على اعمال القتل هي قطعا الادانة. ولكن لماذا في بعض الاحيان عندما نتساءل فيما اننا نستخدم اللغة الصحيحة او فيما اذا لدينا فهم جيد عن الوضع التاريخي فان ذلك قد يقف في طريق ادانة اخلاقية قوية. سيكون من الغريب ان تعارض شيء بدون ان تفهمه او ان تصفه على نحو جيد. وسيكون من المستغرب جدا ان تعتقد بان الادانة تتطلب رفض الفهم، او ان تقتصر الادانة على ما يتم تغطيته وتكراره في الاعلام، اين تبدأ ادانتنا واين تنتهي. اليس نحن بحاجة لتقييم جذري وعلمي للوضع لنرفق ذلك بإدانة اخلاقية وسياسية بدون خشية ان يحولنا ذلك في اعين الاخرين الى فاشلين اخلاقيا بتواطؤنا في جرائم شنيعة يتم ارتكابها؟
هناك من يستخدم تاريخ العنف الاسرائيلي في المنطقة ليبرئ حماس. لنكون واضحين، فان العنف الاسرائيلي ضد الفلسطينيين هو شيء طاغي، فهناك القصف المستمر بلا هوادة وقتل الناس من كل الاعمار في بيوتهم وفي الشوارع والتعذيب في سجونهم وتقنيات التجويع في غزة والاستيلاء على البيوت. وهذا العنف بكل اشكاله هو موجه ضد ناس معرضين لأحكام الفصل العنصري واحكام الاستعمار وسلب حق الدولة. مع ذلك، عندما تصدر لجنة التضامن مع فلسطين بجامعة هارفارد بيانا تدعي فيه بان، نظام الفصل العنصري هو ما يلقى عليه اللوم فقط فيما يجري من هجمات مميتة من قبل حماس على اهداف اسرائيلية، فان هذا يشكل خطأ. فهناك تاريخ من العنف في المنطقة يتراوح ما بين ضربات جوية ممنهجة ومستمرة واعتقالات قسرية في نقاط تفتيش عسكرية وتفريق قسري لافراد العوائل وعمليات قتل استهدافية، مما اجبر ذلك الفلسطينيين العيش في دولة موت على نحو بطيء ومفاجئ في نفس الوقت.
هذا وصف صحيح ويجب ان يقال، ولكن هذا لا يعني بان عنف حماس هو مجرد عنف اسرائيلي باسم آخر. من الصحيح انه يجب علينا بلورة فهم لماذا مجاميع مثل حماس اكتسبت قوة في ضوء فشل وعود اوسلو، ودولة الموت على نحو بطيء ومفاجئ، التي تصف الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال من تهديدات ادارية بالاعتقال بدون وجه حق او الحصار المكثف الذي يحرم اهل غزة من العلاج الطبي والغذاء والماء. السؤال هو انه ما بقي للعالم ان يقدموه لكل سكان المنطقة ان يعتمد على الطرق لإنهاء حكم الاستيطان الاستعماري. واذا لم نستطع طرح النقاش حول فيما اذا كان حكم الجيش الاسرائيلي للمنطقة هو عنصري او استعماري، فعندها لن يكون لنا امل بفهم وادراك الماضي والحاضر والمستقبل.
لتقديم تقييم واقعي حول ما يحصل وان نقدم ادانة اخلاقية للعنف الحاصل علينا ان نعرف تاريخ الوضع ونمو حماس كمجموعة عسكرية بعد فشل وعودة اوسلو بتحقيق تطلعات اهالي غزة بحكم ذاتي وتاريخ الشعب الفلسطيني وتطلعاتهم للحرية وحق التقرير السياسي الذاتي والتحرر من حكم الاستعمار والعنف العسكري القسري. وعندها قد نكون جزء من صراع من اجل تحرير فلسطين.
عندما تدعي لجنة التضامن مع فلسطين بجامعة هارفارد بان نظام الفصل العنصري هو المسبب الوحيد لهجمات حماس، فانها تشترك مع نسخة غير مقبولة من المساءلة الاخلاقية. ولفهم ما هي طبيعة الحدث علينا ان نفهم وندرك جزء من الاحداث التاريخية. هذا يعني انه علينا توسيع عدسات الرؤية لما خلف حالة الترويع الحالية.
اغلب اجزاء وسائل الاعلام المعاصرة لا تعطي تفاصيل عن الاهوال التي عاشها الشعب الفلسطيني على مدى عقود من التفجيرات والقصف وعمليات القتل والاعتقالات القسرية. اذا تفترض اهوال الايام الماضية اهمية اخلاقية للماكنة الاعلامية اكبر من الاهوال التي تعرض لها الفلسطينيون على مدى سبعين عاما، فان الاستجابة الاخلاقية الحالية تهدد بكسوف فهم وادراك المظالم الراديكالية التي تتحملها فلسطين المحتلة والفلسطينيين الذين اجبروا على النزوح، وكذلك الكارثة الانسانية الارواح التي تحدث الان في غزة.
ويخشى بعض الناس ان يتم استخدام اي سياق لاعمال العنف التي ترتكبها حماس لتبرئة حماس، ولكن ماذا لو كان الرعب نفسه هو الذي يقودنا الى السياق، اين يبدأ هذا الرعب واين ينتهي. عندما تتحدث الصحافة عن حرب بين حماس واسرائيل فانها تقدم اطارا لفهم الوضع. اذ فهمت غزة بانها تحت الاحتلال، او انها توصف على انها سجن في الهواء الطلق، فسيتم تقديم تفسير مختلف. نعم يمكن استخدام اللغة للوصف ولكن ضمن قيود فالاعلام لا يريد ان يفصح عن عدد الاطفال الفلسطينيين والشباب الذي قتلوا في كل من الضفة الغربية وغزة هذا العام او عبر سنوات الاحتلال لكي يتم تقييم ما يحدث من هجمات على اسرائيل، عندها سنكون قد قررنا بانه لا نريد ان نعرف تاريخ احداث العنف والاحزان والغضب الذي عاشه الفلسطينيون. نحن نريد فقط ان نعرف تاريخ العنف والاحزان والغضب التي عاشها الاسرائيليون.
هاك صديقة اسرائيلية لي مناهضة للصهيونية تكتب على الانترنيت انها تشعر بالرعب على عائلها واصدقائها وانها فقدت الناس. ويجب ان تتوجه قلوبنا اليها، انه امر فضيع بدون شك، ولكن مع ذلك الا توجد لحظة يمكن ان نتصور فيها ان تجربتها الخاصة من الرعب والخسارة لأصدقائها وعائلتها هي ما قد يشعر به الفلسطيني على الجانب الاخر، او ما شعر به بعد سنوات من القصف والسجن والعنف العسكري.
ان مسالة من تستحق حياته الحزن عليها هو جزء لا يتجزأ من مسالة ان تستحق حياته ان تقدر، وهنا تدخل العنصرية بشكل واضح. ويصور التأطير العنصري للعنف المعاصر المعارضة الاستعمارية بين المدافعين والمعتدين الذين يجب دحرهم وتدميرهم للحفاظ على الحضارة. واذا اعتمدنا هذا الاطار في سياق اعلان معارضتنا الاخلاقية، نجد انفسنا متورطين في شكل من اشكال العنصرية يتجاوز مجرد النطق الى بنية الحياة اليومية في فلسطين.
اعمال العنف التي نشهدها على وسائل الاعلام مرعبة. وفي هذه المرحلة من تصعيد التغطية الاعلامية، فان العنف الذي نراه هو العنف الذي نعرفه فقط. أكرر: نحن مستعدون لاستهجان العنف ونعبر عن رعبنا. كل شخص اعرفه يعيش خوف ما قد تفعله بعد ذلك الآلة العسكرية الاسرائيلية، وفيما اذا ستتجسد دعوة نيتنياهو بقتل جماعي للفلسطينيين.
انا اسال نفسي فيما اذا كان بوسعنا ان نحزن على الارواح التي فقدت في اسرائيل فضلا عن تلك التي فقدت في غزة، دون ان نتورط في مناقشات حول النسبية والتكافؤ. ربما تخدم بوصلة الحداد الاوسع نموذجا اكثر جوهرية للمساواة، وهو نموذج يعترف بالمساواة في حزن الارواح ويثير الغضب من ان هذه الارواح لم يكن ينبغي ان تفقد. كيف يمكننا حتى ان نتصور المساواة في المعيشة في المستقبل دون ان نعرف، كما وثق مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية ان القوات الاسرائيلية والمستوطنون قتلوا حتى قبل الحرب منذ عام 2008 في الضفة الغربية وقطاع غزة ما يقارب من 3800 مدني فلسطيني؟. اين حداد الناس عليهم، لقد مات مئات الاطفال الفلسطينيين منذ ان بدأت اسرائيل عملياتها العسكرية الانتقامية ضد حماس، وسيموت كثيرون آخرون في الايام والاسابيع القادمة.
لا يحتاج ذلك ان يهدد مواقفنا الاخلاقية بان نستغرق بعض الوقت للاطلاع على تاريخ العنف الاستعماري ونفحص طبيعة اللغة والروايات والاطر التي تعمل الان للتعبير عما يحدث في هذه المنطقة ووصفه. هذا النوع من المعرفة هو شيء حيوي ولكن ليس لأغراض تقنين العنف او الامر بفعل مزيد من العنف. الهدف هو فهم اكثر مصداقية للوضع. في الواقع هناك مواقف اخرى يمكن اضافتها للمعارضة الاخلاقية والتي تشتمل على معارضة للعنف العسكري والبوليسي التي تتعرض لها حياة الفلسطينيين في المنطقة، وسلبهم حقوقهم بالحزن والتعبير عن غضبهم ومناصرتهم والبحث عن طريقهم الخاص نحو مزيد من الحرية.
بالنسبة لي انا ادافع عن سياسة اللاعنف، انا اؤكد ان نضالات التحرر التي تمارس اللاعنف تساعد في خلق عالم اللاعنف الذي نريد جميعا ان نعيش فيه. انني ادين العنف بشكل واضح في نفس الوقت الذي ارغب فيه ان اكون جزء من التخيل والنضال من اجل المساواة والعدالة الحقيقية في المنطقة. وهو النوع الذي من شانه ان يجبر جماعات مثل حماس على الانضواء وانهاء الاحتلال وازدهار اشكال جديدة من الحرية السياسية والعدالة.
بدون المساواة والعدالة وبدون وضع حد للعنف الذي تمارسه دولة اسرائيل، التي تأسست على العنف، لا يمكن تصور اي مستقبل للسلام الحقيقي. وليس السلام كتعبير ملطف لكلمة، السلام، التطبيع، وهو ما يعني الابقاء على قواعد عدم المساواة وانعدام الحقوق والعنصرية في مكانها. لكن مثل هذا المستقبل لا يمكن تحقيقه دون ان نظل احرار في تسمية ووصف ومعارضة جميع اشكال العنف بما في ذلك عنف الدولة الاسرائيلية بجميع اشكاله، والقيام بدون خوف من الرقابة او التجريم او الاتهام الخبيث بمعاداة السامية.
ان العالم الذي اريده هو عالم يعارض تطبيع الحكم الاستعماري ويدعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير والحرية، عالم يحقق في الواقع الرغبات العميقة لجميع سكان تلك الاراضي في العيش معا في حرية دون استسلام. من المستحيل بالنسبة لكثيرين ان يكون هناك عنف ومساواة وعدالة في نفس الوقت. يجب علينا ان نتمسك بشكل جامح ويرفض الاعتقاد بان الهياكل الموجودة الان ستظل موجودة الى الابد.