ثقافة وفن

حفيد البي بي سي لميسلون هاديهي.. ليست مجرد حكاية عابرة

زينب الزبيدي
نحن كائنات تبحث دائماً عن ذاتها بين الأزمان، تتلمس الطريق في الظلام، متسائلة عما يحمله لنا المستقبل. تعيش بطلة الرواية في عالم مزدوج، تحمل فيه روحها فوق كتفيها كأنها حقيبة سفر ثقيلة. تتماوج بين الفرح والحزن، مثل أمواج بحر هادئة تهز قاربها الصغير. يتجلى في قلبها نضجٌ عميق، مختبئ خلف ملامحها التي تعكس قوة لا تُضاهى. قوة مزدوجة النهايات، تراها تتقلب بين ضحكاتٍ مفعمة بالحياة وآهاتٍ تُعبِّر عن خيبة الأمل.
لهذا علينا أن ندرك أن هناك عوالم لا تُدركها العين المجردة، تتماهى في حضورها وغيابها حيث يتلاشى الوجود في ضباب الذكريات، تُحَلِّق أروحنا في أفقٍ من قصص مُطرِّزة بحسٍ درامي فائق. هنا، تُشِيع الرياح الأنينَ الحزينَ الذي يتردد في زوايا القلوب المكوية بلهيب التاريخ. يُضيء الماضي، مثل شعاعٍ ضئيلٍ بين ثنايا الصمت، ويكشف لنا عن أسرارٍ دفينة أُهملت في زحمة الزمان.
تتراقص الحروف في فصول الرواية كأنها أمواجٌ تتلاطم فوق بحيرة ساكنة، حيث يلتقي الوهم بالحقيقة في مزيجٍ من الألم والأمل. تنسج “ميسلون هادي” من خيوط الحروف لوحاتٍ تُبهر العقول وتثير المشاعر؛ فهي تلتقط تفاصيل الحياة بتأملاتٍ نادرة، تُبرز التناقضات العميقة التي تشكِّل نسيجَ الوجود.
في كل صفحة، تنساب الكلمات كأمطارٍ تُحيي أرضًا يابسة، مُستدعيةً ذكرياتٍ تطفح بالألوان، وتحمل في طياتها حِكمَ الزمن وقصص الأبطال الذين تجسدت فيهم معاني الشجاعة والألم. يظلُّ القارئ مسحورًا بجمال التفاصيل ودقة التصوير، بالكلمات العراقية التي أفلت نصفها بحكم التقادم والتحديث الجديد، فعندما تبدأ ستكتشف أن الرواية ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي رحلةٌ في أعماق النفس البشرية ومراياها المتعددة.
مازال في الأفق الذي يغلفه الضباب الأزرق،كوة تحاول التلاشي من الحضور، هناك حيث اللحظات تُنسج بخيوط من حكاياتٍ ملونة وأحلامٍ غامضة، حيث تسكن الذكريات بين دفتي صفحات الزمن، كما تُحَبَّر القصة بمداد من الأمل والألم. في عالم “حفيدة البي بي سي”، تتماهى الحقائق مع الأساطير، ويختلط الماضي بالحاضر في سَجِلٍّ من التفاصيل الدقيقة التي تشدُّ الأنفاس.
تبدأ الرواية بلمسة فنية رقيقة، حيث يُشَرِّق ضوء الشمس من خلال نوافذ قديمة تحمل بصمات التاريخ، مُضِيئًا أسرار عائلة غارقة في خيوط الزمن الغابر. شخصية الرواية الرئيسية، التي تنبثق من خلف الستائر التي ينسدل منها النور والظل، هي تجسيدٌ للتراث الثقافي والعائلي المتشابك مع البُعد الزمني. تتنقل بين صفحات حياتها كما يتنقل الطائر بين الأغصان، مُستلهمة من أحلام أجدادها وآلامهم، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذاتها.
في كل فصل، تُسَطِّر الكاتبة ميسلون هادي تفاصيل لا تُنسى عن الأماكن التي تُشَكِّل مسرحًا للأحداث، بدءًا من الأزقة الضيقة في العاصمة بغداد، التي تنبض بالحياة والتاريخ، إلى الأرياف التي تنعكس فيها ألوان الطبيعة على الأرواح المرهقة. تتناثر بين هذه الأماكن حكاياتٌ عن الحروب والأمل، عن العائلات التي صمدت أمام العواصف، عن الأشخاص الذين تتشابك مصائرهم بطريقة غامضة.
تأخذك الرواية في رحلة عبر الزمن، حيث تتداخل الذكريات مع الأحداث، وتصبح الأجيال المتعاقبة مجرد حلقات في سلسلة طويلة من التجارب الإنسانية. تُصَور الرواية بأسلوبٍ شاعري فائق التفاصيل، تتجلى فيه الأحاسيس والآلام والأفراح على نحوٍ يجعل القارئ يعيش اللحظات وكأنها جزء من حياته. تحضر التفاصيل الدقيقة في كل وصف: أصوات الأحياء، رائحة الخبز الطازج، ألوان الفجر، وزخارف الماضي التي تملأ الجدران القديمة.
عبر هذه الفصول، تُبرز ميسلون هادي الصراعات الداخلية لشخصياتها، شهرزاد وعبد الحليم وبدر ومنار، مُستعرضةً تعقيدات العلاقات الأسرية والاجتماعية، وتسبر أغوار مشاعرها بأسلوب يلتقط اللحظات الدقيقة ويحللها بعمقٍ نادر. تأخذنا عبر دروب من الفرح والحزن، تذكِّرنا بأن الحياة ليست سوى رقصة بين الثنائيات: الماضي والحاضر، الأمل واليأس، الحقيقة والوهم.
وفي ختام الرواية، تتركنا الكاتبة مع تساؤلاتٍ عميقة حول معنى الوجود، مُظهرةً كيف أن التقاليد والذكريات تُشكل نسيج حياتنا وتُعَرِّف هويتنا. تأخذنا إلى قلب المعاناة والأمل، مُقدِّمةً رؤيةً مبدعة عن كيف يمكن للتاريخ أن يشكل حاضرنا، وكيف أن الحكايات، مهما كانت قديمة، تظلُّ جزءًا حيويًا من أرواحنا العتيقة،تلك التي تغلفنا كقطعة حلوى بورق أشبه بأوراق السولفان ما أن تمضغنا الأحاديث، حتى تبدأ نشوة لذيذة تنساب مع ذلك السكر، الذي يخفف من مرارة الواقع. سواء من خلال مماحكات منار مع زميلها عبد الحليم، أو من خلال الجدة شهرزاد التي تتشبه بالملكة إليزابث، وتجمع حولها شلة من الحرس القديم، صديقاتها العجائز اللواتي يتجمعن حولها، ويتشاركن معها الأحاديث الطريفة، أو جلسات تحضير الأرواح.. “شهرزاد لديها التفضيل دائماً، فهي مرتفعة جداً عن الأرض، بيتها أشبه بمحطة قطار، روحها أطول من بزون، حركتها أبطأ من سلحفاة، ومكرها أدهى من واوي عتيق…غير أن لديها ضمير نقي وحلم يتكرر لا أحد أستطاع تفسيره من السامعين، وهو أنها ترى نفسها تحمل نفسها بنفسها على نفسها ولا تصل إلى أي مكان”.
*الطبعة الثانية من الرواية صدرت عن دار ألكا، 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى