سمير البدران في معرضه (آثام الصّحف) 2025.. آثام التلصيقات الورقية

خالد خضير الصالحي
1
كانت اهم المقاربات التي تفرض نفسها، في تلقي التجربة الفنية السابقة لسمير البدران تفرضه بساطة المادة التي كانت احبارا ملونة، وادوات بسيطة لا تزيد عن الاقلام الجافة الملونة، او السلايات (الريشة المعدنية) والاحبار الملونة، وعلى عكس بيكاسو الذي اتجه الى المنظور المضاعف، وغلى عكس ماتيس الذي اتجه، في مقصوصاته الورقية، الى بنية في حقيقتها الجوهرية الى اقل من بعدين، كما يؤكد فرانكلين ر. روجرز، اتجه سمير البدران، برأينا الى بعد واحد يتشكل اساسا من تخليق نمط من الرسم قد نجد فيه ظلالا من البعد الثالث المتمثل بالمادة اللونية الكثيفة التي تخلق ملمسا (texture) فيه ايحاء ببعد ثالث؛ دون حاجة الى المرور بالخط كبعد ثالث، فكانت النقطة (الوحدة) الاساسية في بناء اعماله التي تتخلق باجتماع ملايين النقاط، فيتشكل السطح التصويري دونما حاجة للمرور بمرحلة انتاج الخط التي قال بها شاكر آل سعيد عبر الازليات التي قال بها حينما تكون النقطة ازلا للخط، ويكون الخط ازلا للسطح (المساحة)، والمساحة ازلا للحجوم.
2
تمر تجربة سمير البدران بمرحة فوضوية لا سابق لها من ناحية الدرجة، فكانت غرائب المواد تختلط مع بعضها بعد ان صار البدران لا يتورع عن إضافتها الى العمل لإنتاج (السطح البصَري المشغول بعناية) فتتماثل سطوحه مع سطوح اللوحات الإعلانية التي تتجمع عليها آلاف الإعلانات الورقية التي تُلصق وتُرفع وتُلصق فوقها، وتُرفع مرات ومرات اعدادٌ غفيرة تتركُ بقاياها التي (ينسخها) البدران، وينقلها بعد معالجتها بوعي يمنح السطح المشغول قيمته (الفنية)، فهو يعتبرها (اثرا) فنيا قد يكون ناتج (وعي) الصدفة الغامض الذي لا يختلف، في النتيجة النهائية عن أي وعي قصدي، وربما عن اية سطوح (يقتطع) الرسام منها ما يحلو له ليشكل لوحته التي يمتزج فيها كل شيء يصلح برأيه ان يكون (مادة) للرسم؛ مضافة لها الان مقاربة مهيمنة اخرى، منبثقة عن السابقة، وهي غرابة (الخلطة السرية) المتمثلة بالجمع بين المواد الغامضة التي تتعايش بوئام لا مثيل له، فيبقي قدرا كبيرا من بقايا تقنياته السابقة التي تقسط الخط إلى ما يسميه شاكر حسن السعيد (ازل الخط)، اي (النقطة) التي تنتفي فيها الأبعاد الى درجة (صفرية) فلا تستعاد ابعاد العمل الا حين تجتمع (ملايين!) النقاط، بل يمكن القول انه يعالج سطوحة بعدة تقنيات: كالتقطيع والتلصيق “الكولاج” عبر ما يعتبره شاكر حسن ال سعيد أساس اهم وسائل المعالجة التقنية للسطح التصويري عبر (التعرية) و(التراكم) مما يتيح خلق أشكال غفيرة تملا الفراغ بإسراف بفعل تراكم طبقات المادة، ملصقا فوق ملصق، وبقعةً فوق أخرى بتقنيات تستنهض الحساسية الطباعية اكثر من الحساسية الرسموية.
3
ان الولادة الطبيعية (للسطح) التي قال بها شاكر حسن آل سعيد حيث تكون النقطة، ازلا للخط، ويكون الخط ازلا لإنتاج السطح الخ، لا يعتمدها سمير البدران، بل يحل محلها نمط من حرق المراحل، حيث ينتج سطوحه من النقطة دون حاجة للمرور بالخط كعنصر جوهري لبناء السطح التصويري. .
4
اما بخصوص العنوان، وكما يقول الناقد الفنان التشكيلي هاشم تايه نجد عنوان المعرض (آثام الصّحف) عنوانا تعريضيّا ناقما، ومكتظا بتقنية المجاز المرسل بلاغياً، القائم على آلية حذف أو إضمار لأحد طرفيْ علاقة ما. فليست الصّحف هي المرجومة بـ الآثام، بل مالكوها، ومُموّلوها أفراداً، وجماعات، وسلطات”.
5
هنالك نمط من المقاربة الشكلية ناتجة عن ما اسميته (النظرة الكلية والتفاصيل الجزئية) للمفروكات (اثار الجدران) التي تخضع الى (استقراء بصري) للرثاثة في السطوح الملوثة من اجل خلق اشكال متخيلة كالتي تكتشفها العين بعد التفحص الطويل للسطوح الرثة وللغيوم، فتظهر له كائنات غرائبية هي ناتج التمثل السبلي البطيء للأشكال وتفاعلاتها عند المتلقي، ولصيانة عملية تلقي اعمال سمير البدران، يجب الوصول الى عملية تلق للعمل الفني كوحدة بصرية واحدة للسطح التصويري، دون تردد المتلقي بين الاشكال التفصيلية للأجزاء، ومحاولة النظر للعمل الفني كـ(وحدة) واحدة، وتأثير موحد، والكف عن البحث فيما يكمن في الجزئيات.. وهو ما يقصده د. ياسين وامي بـ(المشهديةً المركبةً)، حينما يصف الرؤية الفنية التي يقدمها سمير البدران، بأنها “تمنحنا مشهديةً مركبةً في النظر الى العالم، ومحاولةً ساعيةً لتعرُّف الإنسان، الإنسان الذي يمثل محوراً في كل أعمال سمير، وضحيةً للوجود المعقد الذي يطوّقه وهو يقبع في أزمة مع نفسه وأزمة مع نظيره الانسان وهما يواجهان، خصمين كانا أم صديقين، التداعي والاندثار من حولهما، هذا الانسان القلق، الخائف، الحائر، والمهزوم، هو صورة متشظية مفتوحة على الاسئلة، ليس من وضوح له، وليس من إرادة، ألغاز مبهمة تسكن كائناته المرسومة، مخاوف تنبئنا بريبة الانسان من كل شيء”.
6
هنالك اراء تقول ان اكثر الفنون التي تُظهر هيمنة المادة ووجودها المادي هي فنا العمارة والنحت؛ حيث تظهر سطوة المادة وعصيانها وتمردها؛ فتتضافر العناصر المادية فيها منتجة (محسوسا جماليا) لابد وأن يستأثر بانتباهنا، وهو ليس مجرد شيء قد صنع منه العمل بل غا0ية في ذاتها بوصفها تعين على تكوين الموضوع الجمالي؛ فالمادة التي يصنع منها التمثال ليست مجرد حجارة، وإنما هي حجارة تتبدى أمام أنظارنا منسجمة بالنسب والتأثيرات الضوئية التي تظهر على سطوحها، وهي مظاهر حسية تذكرنا ليس بعصيان ىالمادة على التشكل الذي قال به باشلار انما بقدرة الاشتغال التقني العالي على المادة الخام، وثمرة عملية استطيقية عانتها المادة فاستحالت على يد الفنان الى مادة جمالية، وهو ما نجده في حالة البدران الذي تكف المادة (الخام) التي يقتطعها من مصادرها السابقة ليجعلها جزءا من الفوضى العارمة التي يضعها فيها، مادة كثيفة تعلن عن نفسها رغم قسوة التعامل معها من قبل الفنان في محاولة قهر جمودها وصلابتهاوهو ما ايقن به سمير البدران حينما كان يعامل المادة باعتبارها اشتغالا جماليا خالصا تدل على ذاتها ودلالاتها بنفسها، عبر ماديتها..
