ثقافة وفن

شكوك نقدية حول ريادة الرواية العربية

د. نادية هناوي
كثيرة هي الريادات في عالم الادب والفن، وتأتي في طليعتها ريادة كتابة الرواية العربية، واستقرت الآراء فيها على أن كتاب(زينب) لمحمد حسين هيكل هو الرائد، ولم يشكك الدرس النقدي العربي في أحقيتها الأدبية والتاريخية سوى بعض الأسئلة التي تثار بين الفينة والأخرى غير أنها بالمجمل لم تنفع في زحزحة ما استقر من رأي حول ريادة هيكل، ومن ثم تظل أية محاولة في إعادة النظر وارجاع الريادة إلى المؤصل الأول ضربا من المحال.
ولا بد لأي مشكك في ريادة أي عمل من الأعمال الإبداعية أن يكون على بينة من تاريخ الأدب الذي فيه يبحث عن تلك الريادة، عارفا ما كُتب ونُشر في البلدان العربية في إثناء المرحلة التي نشر فيها كتاب(زينب) وقبلها. ولا مناص له أيضا من أن تكون مقومات الريادة نصب عينه وهو يخضع لها الأعمال التي ينوي المقايسة فيما بينها بحثا عن الحقيقة الأدبية. وقبل هذا وذاك أن يكون موضوعيا لا تأخذه نزعة وطنية ولا يحرفه انحياز عاطفي او تعصب جنوسي.
ولقد أجمع أكثر مؤرخي الأدب القصصي – وأغلبهم من المصريين أو من الدارسين في الجامعات المصرية أو المستشرقين الذين وقع في أيديهم الأدب المصري فتخصصوا فيه أكثر من أي أدب عربي آخر لم يتسن لهم الاطلاع عليه لندرته أو صعوبة الوصول إليه- على ريادة (زينب) بالمعنيين الفني والوظيفي، معتبرين أن محمد حسين هيكل هو رائد الرواية العربية بلا منازع. فهل حقا تناسلت عن أولوية(زينب) وسابقيتها ذرية الرواية العربية؟ وماذا عن أعمال أخرى زامنت (زينب) أو سبقتها؟ أ كانت قاصرة فنيا وغير مؤهلة إبداعيا لتكون مثلها رائدة؟ وهل يعقل أن نصف قرن تقريبا من الكتابة الروائية والممتدة من أواسط القرن التاسع عشر على الأغلب إلى عهد كتابة(زينب) عام 1914 هي مرحلة اعتباط وتجريب بلا قصدية ولا تأصيل؟ وإذا افترضنا أن الأجواء التي ساعدت في الريادة كانت قد توفرت في مصر وحدها دون لبنان والعراق وسوريا وفلسطين، فلماذا لم تدفع الأدباء العرب الذين عاشوا في هذا البلد نحو أن يكونوا روادا أيضا؟ ثم ماذا عن الأدباء العرب الذين كتبوا نتاجات سردية طويلة وقصيرة في بلدانهم التي لم يكن فيها ما كان في مصر من إمكانيات الطبع والنشر والتسويق فظلت نتاجاتهم بعيدة عن أنظار مؤرخي الأدب متدارية في حدود البلد الذي نشرت فيه ومن ذلك مثلا العراقي عطاء أمين الذي نشر أول قصة قصيرة عام 1910 واللبناني ميخائيل نعيمة الذي نشر عام 1914 مجموعته القصصية(سنتها الجديدة) والعراقي سليمان فيضي الذي نشر رواية(الرواية الايقاظية) عام 1919 وعبد الملك نوري الذي يعد أول من وظف تكنيك تيار الوعي في السرد العربي عام 1948؟ وأين المرأة الكاتبة من الريادات الأديبة شعرا وسردا؟ أليس للأديبات الحق في أن يكن رائدات أم أن الريادة حكر على الأدباء الرجال؟
يتصور كثير من مؤرخي الأدب أن الريادة النسوية لا وجود لها في عالم الأدب العربي، بل إن واحدا من نقاد القصة المحدثين وهو القاص والناقد يحيى حقي ذهب في كتابه الذي أرّخ فيه للفن القصصي المصري والمعنون(فجر القصة المصرية) إلى أن (زينب) المنشورة عام 1914 هي أول رواية عربية ولم يعد(عذراء دنشواي) 1906 لمحمود طاهر حقي رائدة وعلل الامر بأن الاولى أفضل من الثانية في الكتابة عن الريف. وقد تبعه مؤرخو الأدب القصصي مصريين وعربا وأهمهم عبد المحسن طه بدر في كتابه(تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870ـ 1938). ومن بعدهما بعقود ظل الباحثون يرسخون ريادة محمد حسين هيكل.
وعلى الرغم من تأشيرات مؤرخي الأدب على الضعف الفني وعدم النضج في الرواية الرائدة؛ فإن ذلك لم يغير من الأمر شيئا. ومن هؤلاء د. يوسف حسن نوفل الذي وجد في (زينب) التهيئة وليس النضج الفني، مؤكدا أن الباحث لا يستطيع (أن يزعم أنها أثرت في تطور الرواية العربية الحديثة وأنها مهدت الطريق إلى ذلك اللون من الروايات وكانت ممثلة لخطوة تسبق ما عاصرها وسبقها من إنتاج في هذا الحقل)
وبالرغم من هذا التأكيد نجده يصر على اعتبار إنتاج الجيل الروائي الأول رائدا (وإن كان دون مستوى النضج في بواكيره) وأن هذه الريادة للرواية العربية ليست مصادفة، معللا الأمر تعليلا حماسيا ينم عن حَمِية وطنية. فمصر هي الحاضنة الملائمة لولادة الرواية، وفيها الطبقة المتوسطة والمشاعر القومية ولدى أدبائها الرغبة في التجديد وتصوير البيئة المصرية والمشاعر والروح الشعبية المصرية ليكون محمد حسين هيكل (واحدا من الرواد الذين وقفوا في صف الحركة الداعية إلى التشبث بكل ما هو مصري حتى لو أدى بهم الأمر إلى الوقوف ضد تركيا والارتباط بها تحت ظل الإسلام) وكأن البلدان العربية الأخرى خالية اجتماعيا ووطنيا وفارغة إبداعيا من هذه الأجواء الحاضنة والممهدة للتأسيس الروائي.
بينما نجد الباحث يغض النظر عن ولادة (زينب) في أجواء باريس متجاهلا تأثر كاتبها بالسرد الغربي حتى غابت لديه أية جذور فنية للسرد العربي القديم. ولا غرابة في هذا التجاهل، بل هو أمر اعتاد غيره من مؤرخي الأدب اتباعه فالمضامين هي التي تهمهم أكثر من الأشكال، ملتفتين إلى البعد الزماني في النص الأدبي غافلين عن بعده البنائي والجمالي. ومن ثم صارت(زينب) رائدة في موضوعها الذي هو المرأة والريف لكنها بالطبع ليست كذلك في أنساقها التي فيها الرجل بطل يعيش في رحابة التحضر والتحديث ويتعامل مع المرأة حبيسة التقاليد برومانسية وغالبا ما تكون النهاية سوداوية.
ولقد أثارت ريادة(زينب) في بعض الباحثين ومؤرخي الأدب القصصي اللاحقين أسئلة كثيرة، فراحوا يتقصون الأسماء ليجدوا أن أكثر الذين كتبوا الرواية العربية بقصدية كانوا لبنانين حصرا، أما بتحديد اسم روائي معين أو بتحديد عمل بعينه. ومن ذلك رواية (وي إذن لست بإفرنجي) التي عُدت أول رواية عربية لصاحبها خليل الخوري ونشرها متكاملة في مجلته (حديقة الأخبار) عام 1859 قبل أن يجمعها ويصدرها بكتاب بعد عام واحد. ومن بعدها انهمرت سلسلة روايات سليم البستاني التي بدأها 1870. وسبب الريادة هنا هو السبق (الزمني) للخوري على المراش الحلبي وجورجي زيدان وفرح انطون.
والحكم النقدي الذي يفتقر إلى الحجج، يظل أقرب إلى الافتراض والتخمين منه إلى التثبت واليقين لاسيما أن غالبية مؤرخي الأدب القصصي يحتكمون إلى البعد الزماني كمعيار غالب وربما وحيد، وهذا ما يوقعهم في مشكل تحديد الريادة الروائية والقصصية. و(زينب) عنوان رئيس لعمل وضع مؤلفه تحت هذا العنوان وعلى الغلاف الأمامي(مناظر وأخلاق ريفية) أما التوصيف كقصة أو رواية فخلا منها هذا الغلاف خارجيا وداخليا إلى جانب خلو الطبعة الأولى من اسم المؤلف الذي استعار اسم(مصري فلاح) مصرحا في الطبعتين اللاحقتين أنه كتب هذا العمل ونشره(بعد تردد غير قليل). والتردد يعني عدم القصدية في كتابة (زينب) بوصفها رواية ونضيف إلى اللاقصدية أيضا اللامداومة كون المؤلف لم يكتب بعد(زينب) عملا قصصيا من 1914 إلى العام 1955 سوى(هكذا خلقت) وبعدها بعام توفي.
ولا شك في أن مقاييس الكتابة القصصية في زمن هيكل لم تكن قد أرست تقاليدها بعد، لا عربيا ولا غربيا. فلقد احتار نقاد غربيون أين يضعون أعمالا تقع بين حجم الرواية مثل الموتى لجيمس جويس أو الحب الأول لتورجنيف. ولن يخرج نقدنا العربي وقت كتابة(زينب) عن هذه الإشكالية في المقايسة بين القصة والرواية فهي بالعموم ما كانت واضحة آنذاك؛ ولكن ماذا عن أدباء سبقوا هيكل في قصدية وضع كلمة رواية على أغلفة أعمالهم؟ وإذا علمنا أن النزعة الرومانسية كانت قاسما مشتركا بين أكثر الأدباء العرب أ فلا يكون طبيعيا إذن أن تكون موضوعات قصصهم بالعموم رومانسية وهي تعبر عن الطبقة البرجوازية السائدة آنذاك ثم تتحول مع قيام ثورة 1919 إلى الرواية التي تلائم التعبير الواقعي عن الطبقة الوسطى الصاعدة التي ظهرت لا في مصر وحدها وإنما في العراق ولبنان وسوريا وفلسطين؟.
ولم يتفوق موضوع(زينب) على أعمال قصصية كانت قد زامنتها تاريخيا أو سبقتها بقليل، وفيها نجد أيضا الرجل العاشق هو البطل والمرأة هي المعشوقة التي إليها يسعى البطل. أما بنائية (زينب) فتقوم على سارد كلي العلم مع طغيان السرد على حساب الوصف والافتقار إلى الحوارات والاستبطان. وكان لتسرب النزعة التقريرية داخل السرد بين الفينة والأخرى دور في ضعضعة الحبك الأمر الذي جعل السارد يعاني وهو يحاول تصعيد الأحداث فتارة نجده يكثر من استعمال (إذا) الفجائية و(أما) التفصيلية وتارة أخرى نجده يضطر إلى التدخل في سير الاحداث مستطردا وشارحا لاسيما في الفصلين الثاني والثالث اللذين استعمل فيهما الرسائل التي ساعدته في منح الأحداث مزيدا من التأزم متجهة بها الانفراج لتكون النهاية المأساوية هي المعتادة والمتوقعة كسائر الأعمال المنشورة آنذاك. وبهذه السمات الفنية والنزعات الرومانسية يكون محمد حسين هيكل غير مختلف في زينبه عن مجايليه وسابقيه، ومن ثم هو ليس رائدهم في كتابة الرواية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى