اخبار العراق

طبيب نفسي واحد لكل 600 ألف نسمة في ذي قار

متابعة/ المدى
في زاوية مظلمة من حياتها، تحاول (حسناء 32 عاما من مدينة الناصرية)، الصمود أمام الضغوط النفسية التي عصفت بوضعها الداخلي، اذ وجدت نفسها وسط دوامة من القلق والاضطراب نتيجة التزامات مالية ثقيلة فرضها زوجها، الذي عجز عن سداد ديونه المتراكمة رغم أنها تعمل في إحدى المؤسسات الاهلية براتب لا يتجاوز 350 ألف دينار (225 دولارا)، إذ كانت تلك الأعباء تفوق طاقتها، لتتركها في حالة من الخوف الدائم وعدم الاستقرار.
ومع مرور الوقت، بدأ هذا الضغط ينعكس على حياة حسناء (وهو أسم مستعار) الشخصية والمهنية وتعاملاتها مع زملائها في العمل ببرود واضح، وازداد توترها وعصبيتها تجاه طفلتيها، اللتين أصبحتا ضحية لغضبها المتصاعد بسبب فشلهما في تلبية طلباتها أو تأخرهما في إنجاز واجباتهما المدرسية.
في محاولة لاستعادة توازنها، لجأت حسناء إلى معالج روحاني، باحثة عن الطمأنينة في طقوس تتضمن قراءة الأدعية والأعشاب، وتلاوة آيات قرآنية، لوهلة شعرت بالراحة، لكن تلك السكينة كانت مؤقتة وسرعان ما عاد القلق ليتسلل إلى روحها من جديد، ويغمرها برغبة ملحة في البحث عن مخرج آخر.
ترددت طويلا قبل أن تقرر اللجوء إلى طبيب نفسي في مدينتها الناصرية، حيث لا يوجد سوى أربعة أطباء نفسيين فقط ومع ذلك، كانت المخاوف الاجتماعية تسيطر عليها كيف ستُنظر إليها إن عرف الناس بأنها تتلقى مساعدة نفسية، لذلك اختارت الاتصال بالطبيب دون الكشف عن هويتها، محاولة الاختباء بين مئات الأشخاص في مجتمعها الصغير.
حسناء، واحدة من مئات الاشخاص في هذه المدينة يواجهون ذات المصير، إلا أنهم يحاولون أن يبتعدوا عن الطبيب النفسي خصوصا وأن عددهم قليل، عكس أطباء الاختصاصات الاخرى كالباطنية وغيرها الذي يصل عددهم إلى المئات، فأربعة أطباء يتوقع المريض أن يجد اشخاصا يعرفهم داخل العيادة، وهذا الأمر يربك وضعهم الاجتماعي، مما يدفع بالبعض إلى لبس قبعة وكمامة في محاولة للتخفي وهذا ما نقله أحد المراجعين بعد عدة محاولات باقناعه للحديث معنا.
ذي قار سجلت أعداد كبيرة في المرضى النفسيين الذي يقومون بالمراجعة، إذ سجل مركز الحياة للتعافي الحكومي لمعالجة مدمني المخدرات ومرضى الاضطرابات النفسية لعام 2022، توافد 1294 حالة من مرضى الاضطرابات النفسية، وفي عام 2023 بلغ عدد المراجعين 1308 حالة، ورغم أن الفارق قليل ولكنه يسجل نسبة واضحة وقلق من قبل المرضى نتيجة الإجراءات الحكومية التي تتطلب تسجيل بيانات كاملة لكل مريض، وبالتالي تكون هذه الحالات وضعها الصحي متردي ولكن هناك العشرات من يقوم بالذهاب للعيادات الخاصة أو يجرون اتصالات هاتفية بالطبيب المختص عوضا عن المجيء.
مدير مكتب الصحة النفسية التابع لدائرة صحة ذي قار إبراهيم صفاء الصائغ، يقول إن “اعداد الأطباء في التخصص النفسي الموجودين في المحافظة بلغ 4 أطباء في الوقت الذي تجاوز عدد سكان ذي قار مليوني و380 ألف نسمة”.
ويجد الصائغ أن “هذا العدد لا يكفي ولا يتناسب مع النفوس السكانية، في الوقت ذاته أن المعيار العالمي يجب أن يتم توفير طبيب نفسي واحد لكل عشرة آلاف نسمة، أي أن المحافظة بحاجة لـ238 طبيب، أما اليوم فكل طبيب أمامه قرابة 600 ألف نسمة تقريبا”.
ويشير الصائغ، إلى أن “تخصصهم لا ينطبق فقط على معالجة مرضى الحالات النفسية، بل ايضا مدمني المخدرات التي هي آخذة بالتزايد، وأن نسب التعاطي المرتفعة تتطلب دعم حكومي للأطباء النفسيين وزيادة في تشجيعهم وزج الأطباء لاختيار هذا التخصص”.
وكانت منظمة الصحة العالمية، أكدت في بيان لها، أن مستوى الانفاق العراقي على الصحة النفسية نسبته لا تتجاوز 2 بالمئة من ميزانيتها للصحة، فيما تشير التقديرات إلى أنه يوجد تسعة عاملين في الرعاية الصحية النفسية لكل مائة ألف شخص، ولكن في العراق تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 2 لكل مائة ألف شخص، ثلثهم من غير المتخصصين، ما يعني أن البلاد تعاني من نقص حاد في أعداد الأطباء والمعالجين النفسيين.
عميد كلية الطب بجامعة سومر أحمد حسن، وهو طبيب نفسي، يشير بوضوح إلى أن “نظرة الوصمة المجتمعية تجاه الطبيب النفسي والمريض ما زالت متسيدة في الشارع، وهي واحدة من الأسباب التي تمنع ذهاب الدارسين في كلية الطب إلى هذا التخصص، لذا تجد أن اعداد الأطباء النفسيين قليلين على مستوى المحافظة والعراق”.
ويتابع أنه “فضلا عن ذلك صعوبة الدراسة في هذا التخصص العلمي، كان سببا إضافيا مع عدم وجود مردود مالي بعد التخرج، إذا تم اخذ بنظر الاعتبار الجانب المادي، فالأقسام الطبية الأخرى لها مكسب أكثر من التخصص النفسي بعد التخرج”.
يشار إلى أن العراق يمتلك ثلاث مستشفيات نفسية فقط، هي مستشفى الرشاد “الشماعية” و”ابن رشد” ببغداد، و(سوز) في إقليم كردستان بمحافظة السليمانية.
يشار إلى أن مجلس النواب، أقر قانون الصحة النفسية رقم 1 لسنة 2005، ونص على “تأمين رعاية مناسبة للمصابين بالاضطرابات النفسية والتخفيف من معاناتهم ومعالجتهم في وحدات علاجية متخصصة تتوافر فيها الشروط الملائمة بما يضمن تنظيم مكوثهم في الوحدات العلاجية المغلقة تحت الإشراف الطبي والقضائي”.
فيما يؤكد رئيس جمعية الأطباء النفسيين في العراق، حيدر المالكي، أن “عدد الأطباء النفسيين في العراق بلغ 209 أطباء، بينهم 45 طبيبا في إقليم كردستان، مع تسجيل زيادة سنوية تتراوح بين 12 إلى 20 طبيبًا، لدعم المؤسسات الصحية”.
ويكمل حديثه، أن “هذه الزيادة تأتي في إطار الفقرات التشجيعية التي قدمتها وزارة الصحة، مثل إعفاء الأطباء النفسيين من شرط الإقامة القدمى وعدم الحاجة إلى معدل دراسي محدد، بالإضافة إلى عدم فرض الخدمة في القرى والأرياف”.
ويبين أنه “سجلنا تنامي في عدد مراجعي الأطباء النفسيين، رغم أنه ما يزال بنسب محدودة، وذلك بسبب تغير القناعات المجتمعية، حيث أصبح هناك فهم أكبر بأن المصاب بحالة نفسية ليس مجنونا كما كان يُعتقد في السابق”.
لم يتوقف الوضع عند عدد الأطباء فقط، بل يمتد ليشمل أيضا مستوى الممرضين النفسيين، ووفقا لإحصائية أصدرها قسم البحوث في مجلس النواب، فإن عدد الممرضين النفسيين في محافظة ذي قار يبلغ 17 ممرضا وبالتالي، يكون نصيب كل ممرض نفسي حوالي 140 ألف مواطن في المحافظة.
يذكر أن تقارير لوزارة الصحة أشارت في العام 2010 الى أن حوالي الثلث من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية، وتؤكد أن العام 2009 شهد مراجعة 100 ألف مريض للمستشفيات والمراكز الخاصة.
ويلجأ بعض المصابين بالأمراض النفسية إلى التفكير في الانتحار وأن البعض منهم يتجه نحو إدمان المخدرات كوسيلة للهروب من واقعهم المرير، ويسعى هؤلاء الأشخاص للحصول على الأموال بأي طريقة ممكنة لشراء المخدرات، مما ساهم في تفشي هذه الظاهرة بشكل كبير.
يذكر أن محافظة ذي قار، سجلت حالات انتحار مختلفة ولاسباب متعددة منها المخدرات والحالات النفسية والجزع من الظروف التي الاقتصادية.
رئيس منظمة التواصل والإخاء الإنسانية وسكرتير لجنة مكافحة التطرف في ذي قار، علي الناشي، كشف سابقا عن احصائيات بحالات الانتحار، التي أشرت ارتفاعا ملحوظا على مدى السنوات الأخيرة، ففي عام 2016، سُجلت 48 حالة، وارتفعت في 2017 إلى 53 حالة وفي عام 2018 انخفض العدد إلى 51 حالة لكنه عاد للارتفاع في 2019 ليصل إلى 55 حالة، وفي عام 2020 شهدت المحافظة زيادة ملحوظة حيث بلغت حالات الانتحار 80 حالة واستمرت الزيادة في 2021 بتسجيل 85 حالة وفي 2022 تم تسجيل 105 حالات، ولكن في عام 2023، انخفض العدد إلى 86 حالة، أما في الربع الأول من عام 2024، فقد سُجلت 37 حالة، مما يعكس بعض التغيرات في الاتجاه العام.
وحول هذا الأمر، يشير أستاذ علم الاجتماع في جامعة ذي قار عدي بجاي، أن “أحد أهم الأسباب وراء الانتحار بين الشباب هو نقص ثقافة مواجهة الحياة، حيث يُعتبر أن الحياة فرصة واحدة وليست فرصا متعددة يُظهر هذا التأثير جليا في الفئة الشبابية التي تتأثر بشدة بمواقع التواصل الاجتماعي، وتعاني من انعدام الثقة في القيادات التي تُروج لنماذج يحتذى بها رغم مستوى الفساد الذي يعانون منه”.
ويتابع أن “الانتحار يأتي نتيجة لضغوط متطلبات الحياة”، مشيرا إلى أن “الأوضاع الاجتماعية قبل 2003 كانت أكثر تقاربا بين الطبقات أما الآن، فقد تغيرت الأمور بشكل جذري، مما يستدعي ضرورة معالجة شاملة عبر مؤسسات اجتماعية وتربوية وأسرية لضمان حياة كريمة ومستدامة.

المصدر: وكالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى