في تأسيس القواعد السردية
د. نادية هناوي
لا يتحقق تأسيس بناء فني أو ابتداع نهج أسلوبي أو استيلاد جنس أدبي ما لم تكن جدته حقيقية ومتقدمة، فلا يسبقها سابق؛ مشافهة أو تدوينا أو ترجمة. والأديب المؤسِس هو الذي يتبعه الكتّاب الآخرون سائرين على خطاه من بعده. أما الأخذ عن السابق والسير على منواله، فيبقى عملا مؤقلَما بفعل التأثر بتقاليد أدبية سابقة تنتمي لأدب أو آداب معينة، فيستثمرها الكاتب في توجيه نصوصه والتعبير عن موضوعه. ولقد وقف عبد الفتاح كيليطو عند كثير من النصوص العربية التأسيسية التي بها تأثر السرد الأوروبي لكنه تردد في أن يعد تلك النصوص” مؤسسة لتقاليد السرد الأوروبي” ربما بسبب الحاضنة الأوروبية التي إليها ينتمي أو بالأحرى سعى إلى الانتماء إليها، وهو القائل في معرض الكلام عن القواعد:(تكوين المبادئ والقواعد ما زال بالنسبة لي سرا من الأسرار ليس بمقدوري أن أبين كيف فرضت نصوص شعرية وأخرى نثرية نفسها عند نهاية سيرورة قصيرة أو طويلة وصارت مراجع ومستندات لا يستغنى عنها، اسميها كلاسيكية بشيء من التساهل، نعت لا أجد له مقابلا في العربية غير أنّ له ميزة توجيه الاهتمام إلى الطبقة والى الصنف والى الصف.. النص الكلاسيكي هو النص الذي تتبناه طبقة الأدباء، ويندمج في صنف من النصوص.)
وإذ لا نرى في (تكوين القواعد) ما هو عويص فهمه، فإننا نرى أن كيليطو نفسه كان قد أكد في موضع آخر أن ثمة نصوصا ظهرت فجأة ومن دون سابق إنذار ككتاب البخلاء للجاحظ الذي لا نموذج سابقا له، وقصة حي بن يقظان (الأول من نوعه في الأدب العربي). أما ما أخذه على هذه القصة الأخيرة وعلى غيرها من النصوص من أنها تفتقر إلى الأصل، مما يجعلها – بحسب كيليطو – منفردة ولم تنتج حركة أدبية في مستواها، فمردود بحقيقة أن هذه النصوص أسست لنفسها مواضعات قالب قصصي محدد هو(القصة)، وأن الأدباء اتبعوا مواضعات هذا القالب حتى غدت قواعد، عنها تفرعت أنواع سردية، وانتقلت تأثيرات هذا القالب إلى آداب الأمم المجاورة ومنها الأدب الأوروبي.
و(دون كيخوته) نتاج من نتائج هذا التأثير بوصفها نصا مؤقلَما، جمع كاتبه بين المتخيل السردي والمتخيل التاريخي متبعا في بنائه الشكلي تقاليد السرد العربي، ومازجا في التمثيل الموضوعي بين الواقعين العربي الإسلامي والاوروبي المسيحي.
ولا ريب في أن البحث عن أبعاد الأقلمة السردية في ما حواه كتاب(دون كيخوته) من أفعال اختلاقية وشخصيات غير واقعية وأزمان، إنما يستدعي التعرف إلى تقاليد السرد العربي الناجزة وطبيعة توظيفها الفني في تحبيك الأحداث والشخصيات والأزمنة والأمكنة والحوارات تحبيكا نصيا به يتحول ما هو غير معقول ولا واقعي إلى سرد احتمالي واقعي عبر الدمج بين وقائع(اتوبوغرافية) يستحضر فيها ثرفانتس معايشاته الواقعية داخل شبه الجزيرة الايبيرية أو خارجها خلال مدة مكوثه في الجزائر وغيرها من المدن الإسلامية.
ولا يفوتنا القول إن الأدب العربي ورث من آداب الأمم المجاورة أساليب وأشكالا معينة غير انه كان على اتصال مباشر مع الأدب الرافديني وما فيه من حكايات خرافية وأساطير، لم ينقطع تسربها بسبب الهجرات المستمرة للأقوام العربية، يقول الأستاذ طه باقر:(انتشرت القبائل العربية منذ الألف الأول ق.م. إلى جهات ما بين النهرين وقد اخذ اسم عرب يظهر في أخبار ملوك الأشوريين في حروبهم مع بعض تلك القبائل في بوادي الشام والعراق ولعله في شمالي الحجاز وتذكر أيضا القبائل النبطية.. وهناك القبائل العربية مما قبل الإسلام ما بين القرن الثاني ق م والقرن السادس الميلادي)
وخلال هذه الهجرات تغلغل الأدب الرافديني في الأدب العربي، وكان من تبعات هذا التغلغل أن صارت “الخرافية” تقليدا اتبعه الحكاء العربي في مروياته الأدبية والتاريخية والدينية الشفاهية منها والكتابية حتى وضع يده على قالب القصة العربية الذي من مكوناته “الحكاية الخرافية”. والأمثلة كثيرة على أقلمة الحكاية الخرافية في السرد الأوروبي ومنها كتاب(دون كيخوته) وهو بمجموعه ليس مقصودا منه الإمتاع فقط، بل أيضا توصيل رسائل فكرية عبر أقلمة البناء السردي بالحكاية الخرافية بطريقتين: الأولى/ اعتماد السارد على مخزوناته التراثية من الحكايات الخرافية التي أعطت سرده بعدا استعاريا كما في هذا المقطع (لم يكد أبولو ينشر ذوائبه الذهبية من شعره الجميل على وجه البسيطة الفسيح ولم تكد الطيور الصغار ذوات الاصباغ الرائعة تحيي بقيثار ألسنتها وأنغام أعذب من الشهد، مقدم الفجر الوردي..حتى غادر الفارس الشهير دون كيخوته دلامنتشا حشايا الكسل وامتطى صهوة فرسه الشهير روثنانته) وكانت من عادة الفارس العربي أن يسمي جواده بأسماء تدل على صفاته، فاسم فرس عنترة الابجر وفرس ابي زيد الهلالي الخضرا. والطريقة الثانية/ ما يتذكره البطل دون كيخوته من حكايات خرافية بها يصطبغ السرد بصبغة غير واقعية(خيل إلى دون كيخوته ان عفريتا أعطى إشارة الوصول..فرفع حافة الخوذة الكرتونية وكشف عن وجهه الجاف الأغبر) وعبر السارد عن لا واقعية دون كيخوته بالجنون(أدى به جنونه إلى تذكر حادثة فالدفينوس ومركيز منتوا حينما ترك كارلوتو أولهما جريحا في الجبل وهي حكاية يعرفها الأطفال) أو (يبدو ان الشيطان قد أصر على ان يذكره بكل الحكايات التي تلائم حاله..). وباستمرار تدفق الحكاية الخرافية في رواية (دون كيخوته) وبجزأيها الأول والثاني يهيمن السرد غير الواقعي ويغدو أرضية عليها يحارب البطل بلا حرب، ويقاتل ما لا يُقاتل، موظفا حكايات خرافية كحكاية تيه اقريطش(في هذه القصور اللعينة ليس منهن واحدة بمأمن ومنجاة حتى لو حبست وأخفيت في تيه شبيه بتيه اقريطش إذ من أضيق الشقوق يدخل الإغراء والغزل ومع الهواء يدخل طاعون الحب).
وبالإمكان تتبع الصيغ الاسلوبية التي بها هيمن السرد غير الواقعي من قبيل ما كان دون كيخوته يسرده من حكايات خرافية فيبادر سنشو إلى التعقيب عليها بأقوال عقلانية، فيفنّدها دون كيخوته ويعتبرها باطلة وغير صحيحة، فحين يقول دون كيخوته:(حاربت المارد حربا لم أخض من قبل مثلها وبضربة واحدة قطعت رأسه ولهذا سال دم كثير كأنها انهار من الماء) يقاطعه سنشو بالقول:(بل قل من النبيذ الأحمر إذ يحسن بك ان تعرف ان هذا المارد المقتول ليس شيئا آخر غير خابية مخروقة وهذا الدم ان هو إلا الثلاثون ربعا من النبيذ الأحمر الذي كان في داخل الخابية اما الرأس الذي قطعته فانه لا يوجد إلا في خيالك. قال دون كيخوته: ما تقول يا مجنون لقد فقدت صوابك) هذا إلى جانب تعليقات المؤلف/ ثرفانتس التي فيها يتبع نهجا واقعيا يغاير نهج السارد/ حامد بن الايلي في توظيف الحكاية الخرافية داخل القصة الضمنية، ومن هذه التعليقات قول ثرفانتس عن دون كيخوته:(وجنونه مدعاة لان يخلط بين الأشياء ويرى الطواحين عمالقة والبغال جمالا وقطعان الخراف جيوشا فليس صعبا ان نوهمه ان أول فلاحة ألقاها هي السيدة دولسينيه) وهذا الموقف طبيعي من كاتب اسباني عرف بنهجه الواقعي في أعماله القصصية السابقة وبغاياته التربوية والأخلاقية وأعني به ثرفانتس.
ومن ثم لا نتعجب أن وجدنا ثرفانتس يرفض زج الحكاية الخرافية في السرد قائلا:(إن هذا اللون من التأليف قد تولد عن الخرافات الميلازية القديمة.. وهي حافلة بأمور لا معقولة عديدة.. في خرافة تجد فيها صبيا في سن السادسة عشرة يَشطر الى نصفين ماردا هائلا ارتفاعه كالبرج).
وكتب في التقديم لمجموعته المسماة “قصص مثالية”(لا أبالغ إن قلت إنني أول من كتب قصصا باللغة الاسبانية لان القصص الكثيرة التي طبعت بها وتجوب أنحاء البلاد مترجمة جميعها عن لغات أخرى. أما هذه فتخصني وحدي وليست مقلدة أو مستعارة فهي من بنات أفكاري التي تمخض عنها قلمي وشبت وترعرعت بين ذراعي خيالي) وفي هذا دليل واضح على نهجه الواقعي الذي أقلمه مع تقاليد السرد العربي.