مسرحية هيكابي.. نظرة في المشهد التمهيدي
صلاح نيازي
قد يكون من المبالغات المساغة، الادعاءُ بأن المشهد التمهيدي prologue في مسرحية هيكابي، ليروبيدس، هو الأدق والأعمق من بين المسرحيات الإغريقية. أمّا تقنياته فلا خِدْنَ لها.
في هذا المشهد الغريب، يفاجئنا شبح صبيّ ميّت يظهر فوق خيمة القائد الإغريقي أغاممنون. للخيمة هنا أهمية خاصّة، لأنها بمثابة خشبة المسرح التي تدور فيها فصول الرواية.
آسم الصبي: بوليدوروس آبن الملك الطروادي وزوجته هيكابي.
يقدّم الشبح نفسه، بالصورة التالية:
“من الكهوف المعتمة للأرض المحجوبة من بوّابات
الظلام حيث يحكم” حادس” بعيداً
عن الآلهة الآخرين، من عالم الأموات جئت”.
في الأبيات الثلاثة هذه، أثار المؤلف، فضول القارئ أو المشاهد. فالصبي هو عينه آبن الملك فكيف قتل؟ ما من أحد بطروادة يعرف بعد، أن آبن الملك قتل. وكيف سيكون وقع ذلك فيما بعد، على أمه هيكابي المنكوبة بزوجها وابنها. الفضول يزداد
حدّة، لأن الشبح جاء من عالم الأموات. الانسان بطبيعته متلهف لمعرفة أسرار عالم الموت المغلق. لأنه لا بدّ ذائقه في يوم ما.
في الأبيات الثلاثة كذلك، تقنية تأليفية نادرة. فقد ضرب المؤلف عصفورين بحجر، حينما جعل راويته فتى صغيراً لم يعجم عوده، فهو أبعد ما يكون عن المداورة والمناورة، ولأنه ميّت فلم يكن بحاجة إلى المين والكذب. لذا جاءت لغة البرولوغ بسيطة لا تنوّق فيها، مجردة من اية تزويقات بلاغية أو زخارف جناسية. وهذا سر تأثيرها، أي ان بلاغتها ناجمة من عدم بلاغتها. وهي من نوع البساطة التي”لا تكلف إلا كل شيء” كما يقول تي. أس. أليوت.
قصة هذا الفتى أن والده الملك الطروادي هرّبه سرّاً إلى صديقه ملك تراقيا، ليؤمّن على حياته من أقدار الحرب الدائرة، لأنه لما يزلْ صغيراً لا يحسن حمل السلاح فلا يستطيع الدفاع عن نفسه. زوّده كذلك بكمية كبيرة من الذهب لينجيه من الملمّة والغائلة وقت الحاجة.
المعلومات التي يقدمها شبح الصبيّ بالغة الخطورة خاصة، لأن أمّه هيكابي ما تزال تعتقد ان ابنها هذا ما يزال حيّاً.
لكنْ قبل محاولة الحصول على سرارة هذا المشهد التمهيدي، قد يكون من المحبّذ ذكر نقطتين:
الأولى انني اعتمدت في تحليل نصوص المسرحية على الترجمة الإنكليزية التي قام بها فيلاكوت Vellacot، لأن اللغة الإنكليزية عريقة في التأليف المسرحي، ولأنها تنتسب في جزء منها الى إللغة اللاتينية فالإغريقية.
الثانية أفدت من الترجمة العربية للدكتورة منيرة كروان ولاسيّما كيفية رسم الأسماء العربية لأنها أكثر تخصصاً.
يتألف البرولوغ من تسعة وخمسين بيتاً ويشتمل على أربع ثيمات. فبعد أن يقدِّم الشبح نفسه بلغة سردية خالية حتى من الصفات، وكأنها تقرير طبي او محضر.
راح الشبح يسرد كيف كان يحوم حول رأس أمّه لمدة ثلاثة أيام:
“أوه يا أمّي يا أمّي! بعد قصرك الملكي – أيحدث هذا!
سبية! من أعلى عليين إلى أسفل سافلينّ
إلهٌ ما رأى مجدك القديم فراح يعادله بهذا الدمار”
كذا كانت كلمات الشبح الفاجعة عن أمه، وكأنه يرثيها. فإذا صحّ هذا التصوّر فهذه لأوّل
مرة يمرّ بي رثاء انسان ميت لإنسان حيّ!
ذكر شبح الصبي ان شبح اخيليوس ظهر فوق قبره وطلب ان تقدم ابنة هيكابى
)أي شقيقة الصبي)، قربانا لهذا القائد الإغريقي، لما اجترح من بطولات في الحرب.
كان له ما أراد، فقُتِلتْ بأبشع ما يكون عليه القتل.
يقول الصبي الشبح إنه راح يستعطف قوى العالم السفلي قبراً
“لتكفنني وتقبرني أمي بيدها، وهذا كلّ ما أتمناه”.
بهذا التوقيت المسرحي الدقيق يرى الشبح أمّه خارجة من خيمة أغاممنون.
كذا قدّم المؤلف هيكابي إلى النظارة عن طريق الشبح لتتصدر المسرحية. هيكابي، لا ريب، هي المدّ والجزر في هذا التأليف.
آعتبر بعض النقاد، مسرحية هيكابي أفضل ما كتب يوريبيدس، وقد تُرجمتْ عدة مرات إلى اللاتينية، وشاعت في العصور الوسطى.
يوريبيدس في هذه المسرحية، والمسرحيات الثلاث الأخرى التي ترجمها فيلاكوت، عَزَل القوى الغيبية، والآلهة الإغريقية عن ماجريات الحوادث الدنيوية، بتأثير الفلسفة السفسطائية، في بداياتها في الأقلّ. إنها مسرحية بشرية محض، أي أن العقاب والثواب تقررهما الأعراف البشرية، من دون الهيمنة السماوية.
إذن بهذا الصورة تظهر هيكابي. كانت تساعدها في الوقوف والمشي وصيفتاها الشابتان، وأول ما تتفوه به، كتقنية لتقديم نفسها:
“ساعداني، يا آبنتيّ، أمسكا بي لأقف
أيّتها الطرواديّتان، أنا مثلكما سبيّة الآن
وكنت في يومٍ ما مليكتكما
والآن أمسكا بذراعيّ وساعداني
أنا عجوز لا بدّ من التوكؤ على هذه العصا المعقوفة
وأحاول أن أجعل قدميّ المتيبستين ومفاصلهما
أن تخطو إلى الأمام أسرع قليلا”
الغريب ان هيكابي رغم هذا التداعي الجسدي وتهالكه، ورغم ثقل سنين الشيخوخة بقيت حادة الذهن. (قراءة أوسع لهذه المسرحية في مقالة لاحقة”.
يبدو أن هذه المقدمة التمهيدية، مثلها مثل كثير من المسرحيات الإغريقية واللاتينية آتخذت من ملحمة (مسرحية) كلكامش نموذجاً لها في التأليف المسرحي، حيث انها لا تبدأ بالثيمة المسرحية الرئيسة مباشرة، وانما بمقدمة أو تسبيحة Paean لإثارة الفضول والتمهيد للأحداث الجسيمة:
“هو الذي رأى كل شيء فغنّي بذكره يا بلادي
وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء…” (ترجمة طه باقر)
انحدر هذا الأسلوب من جيل ألى جيل ومن ثقافة ألى أخرى، فظهرت على أشدّها تأثيراً لدى شيكسبير ولا سيّما مسرحية مكبث، حيث تبدأ بمشهد الساحرات الثلاث، ولم تبدأ بالملك دنكن أو مكبث صاحب الصولات والجولات.
قد يجمل هنا ذكر المقدمات الطللية في الشعر الجاهلي، هل هي الأخرى كانت تنحو منحاة التأليف في مسرحية كلكامش؟ وماذا عن مقدمات مسرحيات خيال الظل والأعمال الموسيقية والاوبرالية؟
في الثلث الأخير من هذا البرولوغ، يسرد شبح الصبي، كيف قتله صديق والده طمعاً بذهبه، وألقاه في البحر.
يقول الشبح عن معاناته:
“والآن أنا ارقد هناك
ممدداً على الحصى طافياّ على الزبد الملحي
تدحرجني الأمواج المتبارية جيئة وذهوبا
ما من أحد يبكي عليّ، ما من أحد يدفنني”
حركة الموج هذه، وهي تدحرج جثمان الصبي، إلى اليسار وإلى اليمين، تتماهى إلى مهد طفل في أتّون الرقود،
وهو بدوره يتماهى إلى أمّ. بهذه الرقة في الحركة والدقّة في الصورة، يقدم الشبح أمّه إلى النظارة:
” لقد تركت جثماني
وأتيت أحوم قريباً من رأس أمي الموجع هيكابى
لثلاثة أيام وأنا أحوم حولها”.
يختفي الشبح حالما يرى أمّه خارجة من الخيمة.
هكذا تغير المشهد المسرحي بتقنية في غاية الدقة، حيث خروج الشبح، وفي الوقت نفسه، دخول هيكابى.
تكثيراً للفائدة، ثمة شبح آخر سرد سيرة حياته، مثلما فعل شبح الصبي أعلاه.
ففي الفصل الأوّل- المشهد الخامس من مسرحية هاملت، يظهر شبح الملك السابق (والد هاملت) ويخبره
بما يعاني في المطهر، وبعد ذلك يروي ما الذي حدث له على يدي أخيه لاغتصاب عرشه:
“كنتُ نائماً في بستاني
كما هي عادتي دائماً كل عصر
في تلك الساعة الخالية من التوجس، تسلّل عمّك
وصبّ سمّ خشب الأبنوس الأسود المقطر في
صماخيْ أذنيّ…”
ثم يختتم الشبح سيرته الشخصية بنصيحة مفعمة بالنبل والتسامح:
” لكنْ كيفما ستأخذ الثأر فكنْ نبيلاً
ولا تنحدر إلى أعمال عمّك الشريرة
ولا تدع روحك تكيد لأمّك بتاتاً”