ثقافة وفن

“مُخْتَارَات”: العِمَارَةُ عند “الآخر”: تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
في محاضراتي العديدة التى كنت القيها على طلبتي في قسم العمارة بكلية الهندسة البغدادية كنت اكرر ما يحلو لي من كلمات مختارة أَتْلُوهَا بشغف في “حق” عمارة <مبنى سيغرام> (1958) Seagram Building المصممة من قبل احد اهم معماريي الحداثة المعمارية “ميس فان دير روّ” (1886 – 1969) L. Mies van der Rohe في نيويورك بامريكا. واعتقد ان ولعي وشغفي بتلك العمارة اللافتة والرائدة كانا مبررين، لجهة ما تمثل عمارة المبنى من مقاربة تصميمية مميزة جسدها بامان وبوضوح تامين ذلك “المبنى” العتيد. ولهذا فليس من ثمة مبالغة في الامر بأن “يضيف” نقاد العمارة حرفيّ التعريف الى عمارة <سيغرام> ويدعواها بـ “الـ مبنى” The Building بدلا من كلمة “مبنى” Building المجردة! وفي ظني، بان مثل هذا التبجيل النادر وغير المألوف في الخطاب، يمكن تسويغه وتبريره لما يمثل ذلك “المبنى” من قيمة واهمية في الممارسة المهنية. كما ان هذا المبنى عكس من دون ادنى شك، تطلعات “مِيسْ” المعرفية وتقصياته المهنية في ايجاد “فورم” معماري بمقدوره، ليس فقط ان “يخالف” ويعارض ما امسى “عقيدة” معمارية راسخة بالمشهد المعماري، معبراً عنها في مقولة “لويس سوليفان” المجنحة من “ان الشكل يتبع المضمون”؛ وإنما الايغال في هذا المنحنى وصولاً لـ “قطيعة” معرفية تنادي بايجاد “شكل” واحد محدد، قادراً لان يستوعب “الوظائف” العديدة..والمختلفة في آن!
معلوم ان “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ”منذ العشرينات ربط (او حاول ان يربط) مفاهيمة المعمارية الخاصة مع الفلسفة المثالية المسماة “الاسكولانية الجديدة” Neo-scholasticism (او “التومانية الجديدة” Neo- Thomism والتى تعود بمرجعيتها الى كتابات الراهب الدومينيكاني “توما الأكويني” <1225 -1274>)، والتى بموجبها، كما فهمها “مِيسْ” بصيغتها المعاصرة، من ان اصول علم الجَمَال فيها يكمن في الكمال وفي النزاهة، مثلما تكمن في التوازن الداخلي للاشكال، وكذلك في رياضيات التناسب النقي. كما انه يرى في تجريد الاشكال الهندسية الصافية، ووضوح الزوايا القائمة وفي الخطوط المتوازية. تجسيماً “للفكرة المطلقة” و “الانسجام العالي”. مثلما يرى في “الاشراق” وفي “النورانية”(وهما قيمتان اساسيتان من قيم جماليات التومانية)، بمثابة قيمتين تحضران بقوة في المباني ذات السطوح المزججة بالكامل او قريبة من الكامل. وفي النتيجة تظهر لنا ابنية موشورية السطوح بأحياز غير مقسمة داخلياً متجمعة في طوابق بكتلة عمودية موحدة. وفيها تظهر التفاصيل بحدها الادني (“القليل يعني الكثير “Less is more القول المأثور والمفضل الذي ينسب الى “مِيسْ”)؛ كما تحضر التماثلية اللازمة والانتظام الصارم، والايقاع المحكم والواضح وكلها مجتمعة تمثل مزايا منظومته الشاملة. لكن هذا النوع من “الاستاطيقا” (الجمالية)، كما يرى بعض النقاد، يمكن لها ان ترسخ ضآلة الانسان وتثبًت وهنه وتحّد من “تطلعاته العابرة” امام ثبات وأبدية قوانين المنطق الرياضي، وامام إمكانات التكنولوجيا التى بفضلها تم تحقيق تلك الكتل الزجاجية المتلألئة والباردة.
بالنسبة اليّ، تبقى مقاربة “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” التصميمية مثيرة للاهتمام والدرس. فهي بجرأتها النادرة و اِستثنائيّة اسلوب طرحها وسعيها نحو الاقتران بالفلسفة وصولا للكمال والنزاهة والتقشف ونأيها الدائم عن الزخرف الفائض وبحثها المستمر لايجاد حالة من الاختصار الشديد لعناصرها التصميمية ولرهافة لغتها المعمارية، تجعل منها مقاربة مدهشة، مسكونة بشغف الكشف وارساء الجديد في الخطاب المعماري ومشهده! وفي ظني، فان تلك المقاربة “المِيسوية” يمكن ان نراها “مجسدة” في غالبية المباني المصممة من قبل “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ”، الا أن “التمثيل” الكامل والشامل.. والذكي لها (لتلك المقاربة) يمكن ان يظهر بوضوح وجلاء تامين فقط في “سيغرام بيلدنك”! ففي ذلك المبنى “النيويوركي”، والمشيد في عام 1958، يمكن تلمس حضور تلك العناصر “المِيسوية” مجتمعة،ـ والأهم الاحساس “بنضج” تلك العناصر وكفاءة استخداماتها، هي التى اسبغت ذلك البهاء والألق والمعاصرة الواسمة لنوعية عمارتها. ولهذا كنت دائما أُناشد اصدقائي أو”طلبتي” (المنتشريين، الآن، في هذا العالم الفسيح!) أن يمروا على جادة “البارك افينيو” في زيارتهم لمدينة نيويورك، حيث “تنهض” بشموخ “سيغرام بيلدنك” ويرفعوا راحة ايديهم كأيماءة “تحية” مني لها: “صديقتي الرائعة”، وان “يتلمسوا” جدرانها، ان امكن، “لتسري” بهجة اللقاء بها في “جسمي” البعيد عنها!
ولد “لوُدفِيك مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” في مدينة “آخن” (مملكة بروسيا/ الامبرطورية الالمانية) سنة 1886، وفي العشرينات من القرن الماضي أضاف “ميس” الى لقبه الذي ورثه عن ابيه، لقب امه: “فان دير روّ ” (مسايرا بذلك “موظة” جديدة شاعت وقتذاك ضمن اوساط الفنانين ورجال الثقافة، بإضافة القاب اجدادهم لامهاتهم الى القابهم الموروثة عن ابائهم، واحيانا التخلي عن تلك الالقاب والاكتفاء باختيار القاب اجدادهم لامهاتهم: المعمار “لوكوربوزيه” من ضمنهم!). لم يحصل “مِيسْ” على تعليم مهني عبر مدارس ومعاهد تعليمية عادية، وإنما ادرك ذلك عن طريق ممارسته العمل التطبيقي في مواقع البناء مساعدا لأبيه عامل الحجر وصاحب ورشة لزخرفته. وفي عمر 15 سنة ساعد معمار محلي في رسم مخططات كثيرة لتزينات جصية داخلية. في عام 1905 يسافر “مِيسْ” الى برلين ليعمل معمارا مساعدا الى المعمار “برنو باول” احد اهم المعماريين الالمان وقتذاك والمختص في العمارة واعمال التزينات الداخلية <الانترير>. كما عمل لاحقا عام 1908 في مكتب المعمار ” بيتر بيرنهس”، الذي عدّ حينذاك، من اشهر المعماريين الالمان، والذي سعى وراء منح “الكلاسيكية” حياة جديدة، رابطاً اياها مع انظمة التراكيب الجديدة ومع ايجاد حلول وظيفية جديدة. وقد “رسخت” ثلاث سنين عمل دائم في ذلك المكتب الشهير خلفية اساسية في تكوين الشاب “مِيسْ” معماراً مهنيا مهتما وعارفاً اهمية الافكار الكلاسيكية الجديدة و قيمة الجانب التكنولوجي الصناعي في اطروحة معلمه المرموق! كما اثر على “مِيسْ” الشاب نتاج “فرنك لويد رايت” والذي اطلع عليه من خلال معرض مكرس الى نتاجات المعمار الامريكي الشهير في برلين عام 1910.
ارتبط اسم المعمار “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” في العشرينات مع تجمعات المعماريين الالمان التقدميين. وفي عام 1926 صمم في برلين نصب خاص الى ” كارل ليبكنخت” و ” روزا لوكسمبورغ” الاشتراكيين. كما عين المشرف العام على معرض ” الاسكان” في مدينة إشْتُتغَارت Stuttgart سنة 1927، وصمم هناك مبنى سكنياً من ثلاثة طوابق بهيكل انشائي حديدي وامتاز بسمة التخطيط الداخلي الحر، تلك السمة الفارقة التى ستحضر في غالبية النتاج اللاحق لهذا المعمار المجتهد. في عام 1929 يصمم جناح المانيا في معرض برشلونة الدولي المعروف بـ “جناح برشلونة”، مصمما ايضاً “كرسيه” البرشلوني الشهير. في ذلك المبنى ذي الابعاد المتواضعة استطاع “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” ان يحقق في الواقع الملموس تصوراته وتقصياته التصميمية في خلق انظمة لـ”بُنًى” حيزية، والتى غالبا ما تكون مرتبطة ومتحدة مع “انسيابية” تكوينية ذات ديناميكة واضحة. ففي الحل التكويني للجناح الالماني استطاع المعمار ان يبتدع منظومة تكوينية جديدة كلياً. فالجدران الخارجية لا تعمل على اغلاق المبنى بإحكام، كما هو شائع، وإنما يظل الفضاء الداخلي ينساب ويدغم بحرية مع الخارج، فليس هناك، بالتالي، أحياز مغلقة، كما ليست هناك حدود واضحة بين الداخل والخارج. ونظرا لاهمية العمارة المبتدعة فان محبي “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” واتباعه استطاعوا مابين اعوام 1983 -1986 ان يًعيدوا بناء الجناح، مرة أخرى، في مكانه الاصلي بعد ان تم تفكيكه سابقاً ونقله الى المانيا بعد انتهاء المعرض في عام 1930.
تظل عمارة “مبنى سيغرام” (1958) في نيويورك بامريكا، علامة فارقة ومشهود لها في نتاج المعمار العالمي “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ”. ففي ذلك المبنى الشهير استطاع المعمار ان يحقق واحدة من اهم طروحاته التصميمية المعروفة بـ “التصميم المرن”؛ تلك الاطروحة التى عمل عليها كثيراً منذ العشرينات، والتى تستند الى فكرة قوامها تثبيت مواقع وحدة المصاعد والمرافق الصحية والخدمات الأخرى في كل طابق من طوابق المبنى، مع منح إمكانية تغيير وتبديل نوعية الفضاءات الأخرى المتبقية في كل طابق بمساعدة قواطع متحركة. لقد لفتت عمارة “سيغرام” الانتباه اليها للمنطق المفرط لتلك العمارة التى ولدت جراء توظيف منظومة التقييس للعناصر الانشائية والتنفيذ التقني ذي الجودة العالية جداً وغير المسبوقة. كما ان “فورمها” المعماري بدا متواءماً بصورة جليّة مع طبيعة المحتوي الداخلي للمبنى.
لقد أثرت عقلانية طروحات “مِيسْ”، وتوظيفه الدائم لأكثر الاساليب البنائية حداثةً، بالاضافة الى منطقية اللغة المعمارية لتصاميمه، على عموم مجرى العمارة في العقد الذي اعقب الحرب العالمية الثانية. ففي نتاجه تجلت بوضوح أكثر بكثير من المعماريين الآخرين جماليات التقنية المتولدة عن عصر تصنيع وتكنولوجيا البناء. هذا فضلاً من ان تأثير “مِيسْ” على مجايليه ازداد قوة ونفوذ لجهة اعتماده على نوعية مقاربة تصميمية يمكن بسهولة محاكاتها وتقليدها، ما ساهم في تَبَوُّؤ مدرسة “مِيسْ” العقلانية مكانة مؤثرة وفاعلة في الخطاب المعماري العالمي ومشهده خلال العقود الاولى لما بعد الحرب.
رأس “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ”مدرسة الباهوس واشرف على غلقها عام 1933 اثر مضايقات النظام النازي الصاعد حينها في المانيا. بعد ذلك هاجر الى الولايات المتحدة التى وصلها عام 1938، واسس هناك “معهد اللينوي التكنولوجي” في شيكاغو كما صمم المجمع العام للمعهد عام 1940. ورأس قسم العمارة فيه. في عام 1944 يصيح مواطناً امريكيا بحصوله على الجنسية الامريكية. ويعد مبناه “كروان هول” (قسم العمارة) الذي صممه في عام 1956 في ذات المجمع بشيكاغو، واحداً من ضمن اهم انجازاته في الولايات المتحدة. تم توظيف مفهوم “الفضاء الشامل” كأحد الأفكار الرئيسية المؤسسة للحل التكويني. فالمبنى مغطى بسقف محمول بواسطة عوارض فولاذية Girders مكشوفة للخارج، ما أمكن الحصول على فضاء لقاعة فسيحة ذات ابعاد 36.5 × 64 م وبارتفاع حوالي 10 امتار، وخالية تماماً من أعمدة وسطية. مما يتيح الى تقسيم فضاء القاعة الى أحياز ذات سعات متنوعة عن طريق استخدام قواطع متحركة لا يصل ارتفاعاها الى مستوى سقف القاعة. وقد أسهم تزجيج جدران المبنى بالكامل، وكذلك سطوح الأرضيات الملساء والسقوف المستوية، في تعزيز الإحساس بوحدة الفضاء المصمم وتكريس حضوره الطاغي في الحل التصميمي.
كان “مِيسْ فَانَّ دَيْرَ رُوَّ” قليل الكلام، ولكن في تلك المقالات الشحيحة والتصريحات القليلة التى ادلى بها للصحافة، استطاع ان يبلور بصورة تامة وشاملة ومحددة ايضاً مفاهيمه الابداعية واطروحاته التى يؤمن بها مظهراً بالتالي تصوراته المعمارية الخاصة. ادناه بعض اقواله وتصريحاته التى تفسر خصوصية مقاربته التصميمة وتكشف عن مفاهيمه المعمارية التى جعلت منه معماراُ عالميا معروفا، ذا اتجاه تصميمي متفرد.. ولافت في آن.

  • “يتعين ان نبتدع <فورم> معماري، يستند على حقيقة اهدافنا، ويتماشى مع وسائط زماننا المعاصر، هذا هو واجبنا الرئيس”
  • “الابنية الادارية، هي “بيوت” العمل، والنظام، ويجب ان تتسم على وضوح بيّن واقتصاد ملموس”
  • “لست اقف ضد “الشكل”، ولكني ضد اعتبار “الشكل” بمثابة هدف اساسي. فالشكل كغاية نهائية تقود الى “الشكلية”.
  • “تُعدّ الهياكل الاغريقية، والبازيليكا الرومانية وكاتدرائيات العصور الوسطى بمنزلة الصروح الزمانية، وليس كمنتج لمعماريين بذاتهم. فمن هو الذي يهتم باسماء اولئك المعماريين مصمممي تلك المآثر؟ وماذا تدلل أهمية معرفة اشخاصهم وصفاتهم المحددة؟ ذلك لان مثل تلك المآثر البنائية تبقى في جوهرها الحقيقي بصيغة المجهول. ان نماذجها بمثابة تعبير بحت لزمانها. ذلك لان اهميتها الجوهرية تكمن بكونها رموزاُ لعصرها”.
  • “غالبا ما يطرح عليّ الطلاب او المعماريون او حتى المهتمين بالعمارة سؤالاً، في اي اتجاه يمكن ان تتطور العمارة”؟. بالطبع، لسنا بحاجة، كما ليس من الضروري ان “نخترع” في كل يوم <اثنين> مقاربة معمارية جديدة. نحن نقترب الآن ليس الى نهاية “العصر الجديد”، وانما الى بداية عصر آخر؛ عصر يمكن ان ينطوي على افكار جديدة يمكن بها ان نهتدي الى قوى جديدة محركة والى طاقات اجتماعية واقتصادية اخرى، ومن خلالها يمكننا ان نكتشف ادوات انتاج جديدة ومواد جديدة. وهذا كله هو الذي يعزى اليه سبب ظهور “عمارة جديدة”. كما يتعين التذكير بان الامر الجديد لا يمكن ان يظهر بحد ذاته. فقط، عندما ننجز عملنا بصورة صحيحة، عند ذاك يمكن ان نضع <لَّبِنَةَ> اساس ثابتة للمستقبل.. ومن خلال مرور سنين عديدة، توصلت الى نتيجة مفادها بان العمارة ليست: <لعبة> مع الاشكال! لقد ادركت بوجود علاقة متينة بين العمارة والحضارة. كما استنتجت بان العمارة يجب ان تولد من خلال القوى الحضارية المساندة والموجهة”.
  • استفدنا في كتابة بعض نصوص هذا المقال، من كتابنا “مئة عام من عمارة الحداثة” الصادر بدمشق، (2009).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى