ثقافة وفن

هوس ابتكار أجناس جديدة

د. نادية هناوي
تظهر بين الفينة والأخرى مقولات واسماء جديدة ومبتكرة للرواية بناءً على فرضية التداخل الأجناسي مثل شعرية الرواية والرواية الواقعية ورواية المنفى ورواية التغريب والرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي ورواية الفانستيتك أو العجائبية ورواية السيرة الذاتية والرواية الجديدة والتخييل واللارواية أو رواية الرواية وما بعد الرواية أو ما وراء الرواية والرواية الانعكاسية أو المضادة أو الارتدادية، وغيرها كثير وهي في الأصل أشكال سردية، تحددت بحدود معينة فكان أن صارت أنواعا خاصة هي حصيلة عملية التداخل لكن ثمة عملية أخرى هي العبور الأجناسي، بوصف العبور عملية إمبريقية، فيها يتم التجميع بمنطقية التضايف بين طرفين الأول تمثله صيغة أو نوع أو جنس والثاني يمثله جنس، ليترشح من التجميع والتضايف عبور يكون لصالح الطرف الثاني الذي هو الجنس الذي سيحتوي في قالبه الطرف الأول. وعندها يجوز تداول مسميات ثنائية مثل قصيدة قصصية أو مسرح ملحمي أو رواية درامية، لكنها على مستوى التجنيس تتقولب في الجنس العابر الذي هو (الرواية).
وكذلك الحال مع الدراما التي هي جنس شعري، نصت عليها بويطيقية أرسطو، لكن مرونة قالبها لا تسمح لها بالصمود أمام قالب الرواية ومن ثم تصطبغ بصبغة هذا القالب متقبلة التموضع في حدوده. وإذا كان المتحصل من العبور هو (رواية)، فإن المتحصل الإبداعي من التداخل هو (رواية درامية) التي هي نوع من أنواع الرواية.
وما يعنيه(العبور) هو تخطي الحد والتجاوز على القالب من أجل إنتاج إبداعي يجسد الأصول لأجل أن يتجاوزها، وينحو منحى محدداً ليغرس الجديد فيها. والتحلي بهذا النظر الانفتاحي هو الذي يضع الجنس الادبي على طريق الاختبار؛ فأما يصيب في عابريته إذا وجد تعضيدا من جنس أو نوع مؤهل لأن يذوب فيه ويعزز هذا الذوبان طول التجريب فيه. وأما أن يخيب سعيه في العبور مكتفياً بالتداخل كأحقية علمية تؤهل ذاك الجنس للمداومة والبقاء، مقتنعًا بالتهجين ليكون ضمن نصية التداخل الأجناسي من قبيل القصة الممسرحة والقصيدة القصصية. ..
لا خلاف في أن للتداخل والتعالق قدرة على جعل العبور منطلقا من مختلف الأنواع الكتابية إلى الرواية؛ لكنهما وحدهما أي التداخل والتعالق لا يكونان كافيين لمنح الرواية سمة العبور ما لم تكن الرواية قد اتسمت بالاحتواء الذي به تستطيع ضم أشكال وأنواع وأجناس أخرى داخلها. فتندمج بها الرواية القصيرة والمذكرات ورواية اللارواية والنص المفتوح واليوميات والاعترافات والخواطر والاسطورة والحكاية وغيرها من الأنواع والأشكال والصور والصيغ السردية، وبالفهم الذي يتجاوز نظريتي الأجناس والتداخل الأجناسي.
أما الهوس بابتكار أجناس جديدة وليدة، والتنبؤ لها نقدياً بمستقبل زاهٍ، فمرض يكشف عن علل وتخبطات كثيرة، تنطوي في الاساس على الإشكاليات نفسها التي تبرز مع مسألة القول بموت الأجناس واختفائها والتعويض بولادة غيرها، لأن فيه تجاهلا لنظرية التداخل وتعطيلا للفهم النقدي لمنظومة العبور لا في جوانبه المعرفية المختلفة وإنما في جانب العبور بين أجناس الأدب تحديدا، كقولنا إن الأجناس لا تختفي أو تموت أو تتوالد وإنما هي تتبدل ومن ثم لا نتحدث عن جنسين هما شعر ونثر؛ وإنما نتحدث عن أجناس وأنواع وأشكال وأنماط مثل (شهادة / تخييل / محكي / سردي / حواري..الخ)
وهنالك تنظيرات ما بعد حداثية تذهب إلى عدَّ الرواية كتابة انفتاحية حرة، لا يقيدها تموضع خارجي ليفرض استبداده عليها، ومن ثم لا يتحكم فيها تقعيد يمارس بعنفٍ رصانته عليها، ولا سيما أصولية التجذر وتوجهاته المصوغة خارج الأدب نفسه. وموريس بلانشو قدّم تفسيرات لظاهرة انفتاح الأدب بالعموم، منها أن كتابة الرواية ترتبط بالمجموعات المهمشة والمتشظية ولذلك كانت نشأتها في الأساس نسوية. وهو ما كانت قد أكدته فرجينيا وولف وايان واط أيضا، وهكذا كتبت الرواية شارلوت برونتي واميل برونتي وجين اوستن وغيرهن. ومنها أيضا أن الهجرة والرغبة في العيش في بلد يتصوره البطل يوتوبيا، ما يجعل الرواية تسير بانفتاحية نحو التشظي معبرة عن مخيال حر لا يعرف التقعيد. ولأجل التلاؤم مع فوضى الواقع المعيش، تغدو الحبكات الصغيرة عاكسة حالة التنافر واللاتناظر في الحياة الواقعية. وهذا ما يجعل الرواية غليظة بالشظايا والانفصام الكتابي على نحو فوضوي، وهكذا (هشمت الرواية الحديثة الحبكة وفككت النهايات ولونت السرد الروائي بلون الأنماط الحكائية الشائعة في التجارب الحياتية اليومية). كما يقول جيسي ماتز، ومثّل بويلا كاثر التي غيّرت طبيعة الكتابة المناطقية لتكون مشبعة بالواقعية، بدلًا من الكتابة المحلية المدهشة والساحرة، عن الحياة السائدة في المراكز الثقافية الأمريكية المهيمنة.
وتنظيرات كثيرة من هذا القبيل، يتقوى بها الاحتجاج ضد التصنيف النوعي ويتزايد الإيمان بانهيار أي محاولة لتجميد قوالب الأجناس، لأن أي تجميد في القوالب هو غير قابل للصمود أمام حاجة العالم إلى التحرر والتغيير واللاتقيد والسيولة، فضلا عن كون المبالاة بالتصنيف هي من قبيل الخروج عن طريق التخييل والدخول في الواقعية التي لا تقبل الغرابة في مخالفة المنطق وما تقتضيه طبيعة الأشياء، بينما الأدب في الأصل ليس شيئا ماديا نلمسه، إنما هو تخييل به ندرك العالم، فنفهمه في تنوعه مألوفيةً ولا مألوفيةِ، وندركه في وحدته تضاداً وتوافقاً.
وتظل محاولات التنظير للرواية لتكون مفتوحة بالمطلق تماشيا مع التطور، مجرد افتراضات لا تتوفر على ما ينبغي أن تكون عليه الاصطلاحية الأجناسية من العموم والاستمرار والصيرورة والتحول. وبالرغم من شيوع بعض تلك المسميات وهيمنتها على الصعيدين النقدي والأدبي، فإنّ الرواية تبقى جنسا فيه امكانيات الاحتواء والضم لغيرها من الاجناس، والسبب هو المرونة التي يتمتع به قالبها تخييليا ومقارباتيا واليغوريا.
ولقد سعى النقاد إلى تقنين قالب الكتابة القصصية القصيرة لكنهم اختلفوا في تحديده وتعريفه كجنس لا لبس يطال نوعية قالبه، ولا شكوك تحوم حوله، وكإنجاز مفروغ منه توصيفًا ودراسة. واتخذ هذا السعي نحو التقنين طابعاً نظرياً يهتم بتجريد العملية الكتابية، والتعامل مع المنطوقات بجملة قوانين تشرعن الاعتراف بالقصة القصيرة جنساً أدبياً مستقلاً.
والمدهش أنَّ هذا التوجه في التنظير لأجناسية القصة القصيرة لم يكن مرتبطًا بالتنوع في المذاهب الأدبية أو الاختلاف في التوجهات الكتابية، وإنما بدأ مع بداية التجريب في كتابتها فنياً في القرن التاسع عشر.
وبسبب تجريبية جيمس جويس ومحاولة فهم نظريته حول التجلي أو لحظات الإدراك الخارق، اقترح كولن ولسن لقراء جويس أنّ تكون قراءة قصصه تمرينًا في الواقعية الفلوبيرية بوصفها واقعية اللحظات النموذجية من الحياة اليومية التي تعمل عمل آلة التصوير.
وهذا الذي وصل إليه جيمس جويس، جعل فرانك اكونور يراه محظوظاً، لأن تجريبه جعل قصصه تُقرأ كوحدات، لاسيما مجموعته(أهل دبلن) التي تبدو قصصها أجزاءً لترجمة ذاتية من الطفولة المبكرة، وبالإمكان تضمين أية واحدة منها في رواية الترجمة الذاتية(صورة الفنان في شبابه) التي كتبها جويس، هذا إذا لم تكن هذه القصص – كما يرى اكونور – أجزاءً من المسودة المبكرة لهذه الرواية التي تُعرف ببطل ستيفن، مؤكداً أن جويس توقف عن كتابة القصص بعد نشر هذه المجموعة. وفي هذا إدراك واع لحقيقة أن هناك تلاقياً في الحدود بين القصة القصيرة والقصة الطويلة والرواية القصيرة (النوفيلا) والرواية، بما يجعل أمر التمرير الكتابي في ما بينها، ممكنا وطبيعيا على مستوى التجريب الذي به يتوسَّع جنس الرواية ليكون عابرا على مختلف الأنواع والأشكال، عاكسا زوايا الواقع المعيش كلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى