ثقافة وفن

البعث الرواية الثالثة لتولستوي لكنها الأكثر إنسانية

علاء المفرجي
في رواية البعث يحكي تولستوي قصة النبيل ديمتري إيفان نيكليندوف، شاب روسي في متوسط العمر، ثري من طبقة النبلاء، لم تستيقظ أو يسطع الشر في داخله مبكراً، كان ينفق جل وقته إما في مساعدة الآخرين أو في تحصيل العلم. كان مستعد للتضحية بنفسه في سبيل القيام بعمل جميل، ولكن ما إن انضم إلى الحياة العسكرية التي يعتبرها تولستوي في ذلك العهد القيصري مدعاة للشر، حتى استيقظ بداخله أنا مختلفة. كان فيما مضى يرى ذاته كائناً معنوياً، أما الآن فأصبح ذلك الأنا حيوان جميل صحيح الجسم قوي البنية. كان من نتائج ذلك التغيير الجذري إقلاعه عن إيمانه بذاته ليؤمن بالآخرين، لأن إيمانه بنفسه لم يكن عسيراً عليه، فعندما يؤمن بنفسه لا بد له من البحث عن حلول لمشكلات كثيرة لغير صالح الأنا الحيوانية، وعندما يؤمن بالغير فلا مشاكل ولا حلول، إذ كل شيء لمصلحة الأنا المادي ضد الأنا المعنوي، وكانت الضحية لهذه الأنا هي كاترين ماسلوفا. كانت كاترين تقيم مع خالتيه في إحدى الضواحي، كان يلعب معها وينفق جل وقته معها كأخوين متحابين من الصغر. ولكنه حين عاد إليها بعد استيقاظ ذلك الكائن الحيوان، أطل الإنسان المادي من مكمنه طالباً بحقه، وهنا بدأت الجريمة التي يباركها ذلك المجتمع النبيل، حين أخذ منها ما أرادته أناه المادية، وترك لها ظرف به مبلغ صغير من المال. لم يفهم هذا الأمير الشاب أنه كان لكاترين هو المثال الأسمى للشاب الورع الذي يسعى لمساعدة الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب نفسه. ماذا بمقدورها أن تفعل الآن أو بماذا تؤمن حين تجد ذلك الشاب النادر الوجود في هذا العالم لا يسعى إلا ما يطلبه من أنفقوا جل أوقاتهم في تلبية شهواتهم الحسية؟ كان من نتيجة ذلك الغرق في عالم لا يرحم، وقادها ذلك العالم إلى السجن متهمة بجريمة قتل. بعدها بسنوات طويلة، حين تخلى الأمير عن الحياة العسكرية وانضم للمحلفين في إحدى المحاكم، يتم إدخال فتاتين ورجل متهمين بجريمة قتل. كان النبيل ينظر إلى هذه المرأة باستغراب، ليس لجمالها الذي أثار انتباه كل من تطلع إليها، رغم ثيابها الرثة، بل لأنها هي كاترين التي تقاسم وإياها ذكريات الطفولة، واختتمها بفعلته الأنانية، والتي قادتها إلى بحر من الظلمات انتهت في قاعة المحكمة.
الموضوع كما يقول الناقد أبراهيم العريس: ليس هنا بل في مكان آخر تماماً. الموضوع أن ضابطنا الشاب سرعان ما يتعرف إلى المتهمة الحسناء كاتيوشا موسلوفا التي كانت قبل حين خادمة في بيت عمتيه فتمكن هو من إغوائها ذات مساء ثم تخلى عنها وعاد إلى عسكريته وقد نسيها تماماً. بل حتى لم يعلم حينها أنه تركها حاملاً ما أثار من دون علمه فضيحة وجعل العمتين تطردانها فلم تجد مأوى لها سوى الشارع ومهنة سوى الدعارة. ناهيك عن أن سوء أحوالها تسبب في ولادة طفلها ميتاً. وبذلك، كما سيعلم ديمتري في قاعة المحكمة، باتت الفتاة مومساً بصورة رسمية تحمل البطاقة الصفراء الخاصة ببنات مهنتها وتلك كان حالها حتى ارتكبت الجريمة المتهمة بها.
ويحل قدر من الحزن والندم بالضابط الشاب وهو يستذكر كل هذا من موقعه داخل المحكمة ويسعى بما له من نفوذ وسمعة إلى إنقاذ ضحيته السابقة مما آلت إليه حالها. غير أنه بعد سلسلة من المحاولات التي فرغ وقته في سبيلها لم يتمكن من أكثر من تخفيف الحكم عنها إلى أربع سنوات سجناً تمضيها في الأشغال الشاقة في إحدى مناطق سيبيريا النائية. بل إنه قرر إزاء ذلك كله أن يعيش مذاك وصاعداً من أجلها مرافقاً إياها إلى منفاها وقد قرر الزواج بها بعدما ينتهي ذلك كله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى