ثقافة وفن

علم السرد والوسيط الرقمي

د. نادية هناوي
من العوامل الرئيسة في تجدد النظرية السردية وانفتاحها على مجالات غير مسبوقة تؤهلها لإحراز مزيد من التقدم في مهماتها تحليلا وتفسيرا وممارسة هو التقدم التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي. ويتضح هذا التجدد والانفتاح في ما يبزغ بين الفينة والأخرى من علوم مستحدثة يتعالق فيها السرد مع واحد أو أكثر من ميادين المعرفة المتقدمة، وفي طليعتها الميدان التكنولوجي. ومن تلك العلوم علم السرد عبر الوسائطي. والوسائط هي وسائل الإعلام المتنوعة مادية ورقمية، مسموعة كالراديو والبودكاست والكتب الصوتية، ومقروءة كالقصص والروايات المصورة، ومرئية كالأفلام والألعاب والمواقع الالكترونية.
وأهم سمة من سمات هذا العلم السردي هي التفاعلية ما بين المنتج السردي والمتلقي سواء أكان فردا أم جمهورا. ولا تعني التفاعلية مجرد التواصل الأدبي عبر وسيط إعلامي، بل أيضا المشاركة في ديمومة المنتج أو إعادة إنتاجه وذلك تبعا للمتلقي وما لديه من مدركات حسية وقدرات ذاتية، تؤهله لأن يتفاعل مع المنتج السردي سواء في ما يستقبله من رسائل جمالية فكرية أو في ما يستجيب إليه من تعليمات وبلاغات تعطي مؤشرات على الاستمتاع والإفادة. وكلما اتسع ميدان تداول الوسائط الإعلامية الرقمية، غدا الإطار التواصلي بين عقل بشري وآخر رقمي تصنعه الآلات فائقة الذكاء طاغيا على مثيله الذي يجري بين عقل بشري وآخر مادي زماني أو مكاني.
وصحيح أن علماء السرد الكلاسيكي درسوا الوسائط الإعلامية ووضعوا في ذلك منهجية سيميائية بنوها على خلفية معرفية هي حصيلة النظريات اللغوية والأسلوبية في الابلاغ والتواصل بدءا من سوسير وتشارلز بيرس وجاكوبسون ووصولا إلى بارت وغريماس وغيرهما، بيد أن الوسيط الذي كان موضع عناية هؤلاء على تعدده كان ماديا في الغالب، ومن ثم تكون الفجوة المعرفية حاصلة في مجال الوسيط الرقمي الذي تصاعدت فاعليته الجمالية وتأكدت قيمته الذوقية ومعطياته المعرفية، مقابل تراجع فاعلية الوسيط الإعلامي المادي بشكل ملحوظ وبخاصة في العقدين الأخيرين من القرن الحالي بعد اختراع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي وآخرها ChatGPT. ولا مجال لردم هذه الفجوة سوى بحمولة نظرية تتماشى والتطورات الجارية في أساليب التواصل ووسائط الإعلام وأنماط التمثيل المتقدمة.
انطلاقا من تلك الفجوة، انبثق علم السرد عبر الوسائطي لأجل تلبية الحاجة الماسة إلى بلورة فهم نظري لطبيعة الوسائط الرقمية بكل ما فيها من تقنيات وأشكال. وكان من نتائج البحث في هذا العلم، وضع جهاز مفاهيمي خاص به من قبيل(التواصل، الوسيط، التمثيل، العقل المنتج، العقل المتلقي، العقول المتعددة، الانتقال التواصلي..الخ). وجميعها تتمحور حول العملية السردية ونوعية الوسيط الرقمي المستعمل ودور المتلقي في التفاعل بوصفه يقوم بأكثر من وظيفة فهو الذي يستقبل المنتج السردي الإعلامي وفي الآن نفسه يشارك في إنتاجه وقد يؤدي إلى إعادة إنتاجه.
ولقد حقق علم السرد عبر الوسائطي خلال السنوات العشر الأخيرة تقدما كبيرا، بعدما قفز الذكاء الاصطناعي قفزات تكنولوجية هائلة. غدت معها الوسائط أكثر تنوعا وتعقيدا وأعمق أثرا في تحقيق التواصل العقلي بين البشر والآلة. ومن المؤلفات المعنية بدراسة هذا العلم كتاب(السرد عبر الوسائطي: السرديات والقصص في الوسائط المختلفة)2019 للباحث السويدي لارس هيلستروم ويعمل أستاذا في مركز الدراسات البينية والمتعددة بجامعة لينيوس.
وتدور موضوعات الكتاب حول أهمية رسم إطار مفاهيمي للسرد عبر الوسائطي تتحدد فيه الماهية والتعريف مع فحص الأساسات التي عليها يقوم هذا السرد وهي: التواصل، التسريد، التركيز على العقول، الأحداث، العلاقات الزمنية، التماسك الداخلي، الصدق الخارجي كما يناقش الكتاب اشتغالات السرد بحسب أنواع الوسائط، مادية أو الإلكترونية، وفاعلية كل وسيط وخصائصه في “التجاوز الميديوي”.
ويذهب الباحث هيلستروم إلى أن التواصل عبر الوسائط يتحقق بعمليات فيزياوية تحدد سيميائية التلقي كاستجابة أو ردة فعل، فالمتلقي ما أن يستقبل سلسلة الإشارات والعلامات حتى يتحفز عقله على تكوين استجابات حسية تمثيلية ضمن سياق تواصلي معين يفضي إلى اكتساب معرفة جديدة. ولقد وجّه الباحث اهتمامه بشكل رئيس صوب فكرة أن الممارسة التواصلية Communicationفي استقبال المنتج السردي المتضمن للوسائط الإعلامية إنما هي نتاج الارتباط الوثيق والعميق بين الوسيط Mediation والتمثيل Representation كعمليتين أساسيتين تتحققان في إثناء التواصل السردي؛ العملية الأولى هي ما قبل سيميائية، تجري في ما بين السرد المنتج والمتلقي المستمع للأصوات والمشاهد للصور والعملية الثانية سيميائية تمثيلية وتجري عبر سلسلة من العلاقات والعمليات المعقدة، فيها المتلقي مشارك ومنتج أيضا. وأفاد الباحث من تنظيرات سيمور تشاتمان السيميائية، مؤكدا أن السرد ليس هياكل مستقلة عن أي وسيط، بل هي هياكل مشتركة بعدة وسائط. فالعقل يميل إلى تشكيل معارفه من خلال ما يكتسبه من خبرات وما يرثه من معتقدات وما يتمتع به من حدوس وتوقعات وما لديه من ميول وتفضيلات وتصورات، تلعب دورا مهما في عملية التواصل. ذلك أن عقل المتلقي في استقبال منتج إعلامي معين يعتمد على ما لديه من خلفية معرفية واستعدادات فطرية واتجاهات ومهارات مكتسبة. وإذا كان للمخزون المعرفي في عقل المتلقي تأثير كبير في عملية التواصل مع الوسيط الإعلامي، فإن هذا التأثير سيكون واضحا في تشكيل الأثر المعرفي في إثناء التواصل وما بعده. ولا شك في أن التعددية الوسائطية هي جزء أساس من التوسط البيني (intermediality)وهو مفهوم واسع التطبيق، ويعتمد على طبيعة تفاعل أنواع الوسائط المختلفة بعضها مع بعض وبطرق متنوعة منها التجاوز والارتباط.
وما يحسب لهذا الباحث رؤيته النظرية لوسائط السرد المتعددة وخصائص كل واسطة على حدة، وأن السرد عبر الوسائطي(يشتمل على فكرة أن العالم مليء فعلاً بأنواع مختلفة من السرديات التي تتفاوت في تطورها وتعقدها ويتم التواصل بينها من خلال أنواع متعددة من الوسائط. وفي معناها الأكثر تحديدًا، يمكن فهم السرد عبر الوسائطي على أنه يتجاوز السرد التقليدي من خلال توظيف أنواع مختلفة من الوسائط. ومع ذلك يُنظر إليها على أنها سرديات رغم التجاوز والانتقال).
والبادي أن لتنظيرات ماري لوري ريان تأثيرا واضحا في ما يقدمه هيلستروم من رؤية سردية. وهذا ليس بالغريب فماري ريان أحد أهم منظري السرد ما بعد الكلاسيكي، ومن المتقدمين في دراسة علاقة السرد بالذكاء الاصطناعي. ولذلك قدّم هيلستروم امتنانه لها كونها قرأت الكتاب وأبدت رأيها في ما يحويه من نقاط القوة والضعف.
ومما سعى هيلستروم إلى بلوغه هو توطين تعريف خاص لهذا العلم؛ فبدأ أولا باستعراض تعريفات بعض المنظرين للفعل السردي بشكل عام؛ فويليام لابوف عرَّفه بأنه تسلسل لفظي منطوق من جمل تمثل أحداثا – والحد الأدنى للجمل اثنتان مرتبتان زمانيا- ولا يتحقق التمثيل من دون وجود وسيط لفظي رابط، هو واحد في الأقل. أما جيرالد برنس فقدَّم وصفا تخطيطيا للسرد بوصفه تمثيلا لأحداث ومواقف حقيقية أو متخيلة ضمن تسلسل زماني محدد في حين ربط ميلبرغ الفعل السردي بالموسيقى، وذلك بوصف السرد تمثيلا لمجموعة أحداث تتابع في الزمان.
ومن خلال هذه التعريفات وغيرها، يتأكد التركيز في فهم السرد على الترابط الزماني، ولذلك يقترح هيلستروم أن يكون تعريف “السرد عبر الوسائطي” مستندا إلى أنواع الوسائط الإعلامية وما تشترك فيه من خصائص مع الفاعلية السردية، مشددا على واقعية هذه الوسائط وما قد يكون لبعضها من أنظمة معقدة. وهذا الاقتراح الذي يقدمه هيلستروم يأتي في ضوء منظور هنري جيكينز إلى السرد عبر الوسائطي بوصفه ظاهرة في بناء السرديات تقوم على مجموعة مقاطع مجزأة وموزَّعة تُقدم عبر منصات متعددة الوسائط كالأفلام والقصص المصورة وألعاب الفيديو والرواية الرقمية وأشكال أخرى من التطبيقات المخزونة في شبكة الانترنت كالإعلانات وبرامج التلفزيون والراديو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى