ما هي الأحداث المهمة التي “تعمّد” بوتين تجاهلها في كلمته السنوية للأمة؟
عقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مؤتمره الصحفي السنوي الشامل لعام 2024 في موسكو، والذي أُطلق عليه “نتائج العام مع فلاديمير بوتين”، وعلى الرغم من ذلك أغفل بوتين ذكر بعض التطورات المهمة التي حدثت خلال العام أثناء استعراض نتائجه، من بينها خمسة أحداث رئيسية نسلط الضوء عليها في تقريرنا.
تناول الرئيس الروسي، خلال المؤتمر الذي عُقد في 19 ديسمبر/كانون الأول، مجموعة من القضايا مثل الاقتصاد المحلي، وتراجع معدل المواليد، والرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب وحرب إسرائيل وغزة، بيد أن معظم الوقت، الذي امتد إلى نحو أربع ساعات ونصف، خصصه بوتين للحديث عن غزو بلاده لأوكرانيا.
ومع اقتراب دخول تلك الحرب عامها الثالث، سعى بوتين إلى تصوير الأشهر الـ 12 الماضية على أنها ليست سوى “نجاح”، وأعلن أن الجيش الروسي “يستعيد الأراضي” ويحقق تقدماً على الجبهة “يوميا”، واصفاً جنوده بأنهم “أبطال”، مضيفا أنه حمى السيادة الروسية.
وعلى الرغم من أن بوتين استخدم حق النقض “فيتو” ضد أي هدنة مقترحة، قال إنه “منفتح على التسويات بشأن أوكرانيا” لإنهاء الحرب، لكن لم يكن واضحا ما قد تنطوي عليه مثل هذه التسويات، وقال إن الكرملين مستعد للتفاوض مع كييف دون شروط، لكنه كرر ادعائه بعدم شرعية الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ليكون طرفا في هذه التسوية.
فما هي تلك الأحداث الخمسة الرئيسية التي أغفل ذكرها بوتين أو لم يتحدث عنها إطلاقا، وما تأثيرها؟
“وفاة أليكسي نافالني”
في 16 فبراير/شباط 2024، توفي زعيم المعارضة الروسي البارز، أليكسي نافالني، في المستعمرة العقابية رقم 3 في بلدة خارب الواقعة في شمال روسيا، وعلى الرغم من أن زملاء نافالني يواصلون التحقيق لمعرفة ملابسات تلك الوفاة، شكك البعض في روسيا في أن زعيم المعارضة، الذي نجا سابقاً من محاولة اغتيال بتسميمه بمادة نوفيتشوك، قُتل بأمر من بوتين.
كانت موسكو والعواصم الأوروبية، في ذلك الوقت، تناقش بالفعل اتفاقا لتبادل كبير للسجناء، والذي أُبرم أخيرا في الأول من أغسطس/آب.
وتعمدت روسيا، لاسيما بعد أن شنت غزوها الكامل لأوكرانيا، اعتقال مواطنيها وكل من يدلي بأي نوع من التصريحات المعارضة للحرب.
وكان صوت نافالني، الذي أعرب دوما عن معارضته لتلك الحرب، من بين تلك الأصوات المسموعة حتى من خلف أسوار سجنه.
ومثّلت وفاته يوماً كئيباً لعشرات الآلاف من الناس في شتى أرجاء روسيا.
ومع اقتراب الذكرى الثانية للحرب، وإرسال بوتين عشرات الآلاف من جنوده الذين قُتلوا في ساحة المعارك، رأى الرئيس الروسي، على ما يبدو، أنه لا يزال يشعر بحرج من خصمه السياسي الرئيسي، فقرر ببساطة تصفيته جسدياً.
“هجوم على قاعة كروكوس سيتي”
في الوقت الذي كان اهتمام السلطات الروسية منصبّاً على أوكرانيا، وتجنيد المزيد من الجنود للخدمة في الجيش وتطوير أنواع جديدة من الأسلحة، بدا أنهم لم ينتبهوا إلى تنامي مشاعر إسلامية متطرفة، سواء في دول آسيا الوسطى أو في جمهوريات شمال القوقاز الروسية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، فوجئت البلاد بمذابح معادية للسامية في مطار محج قلعة، كما شهد يوم 22 مارس/آذار 2024 واحدة من أسوأ الهجمات الإرهابية في تاريخ روسيا.
وأسفر الهجوم الذي شنه إرهابيون إسلاميون على قاعة “كروكوس سيتي” للحفلات الموسيقية عن مقتل 145 شخصاً وإصابة 551 آخرين، ووُصف الهجوم بأنه أحد أشد الهجمات دموية منذ مأساة حصار مدرسة بيسلان، قبل 20 عاما.
وعلى الرغم من إعلان جماعة ولاية خراسان الأفغانية مسؤوليتها عن تنفيذ الهجوم، سارعت الدعاية الروسية، ثم بوتين لاحقا، إلى اتهام أوكرانيا بشن الهجوم، وزعموا أن المهاجمين كانوا يحاولون الفرار إلى أوكرانيا بعد الحادث، وأُعدّت لهم “نافذة (مراقبة أمنية) على الحدود”.
ولم تقدم موسكو دليلا واحدا على ذلك حتى الآن، ولم تثبت تورط الأجهزة الخاصة الأوكرانية في تنفيذ الهجوم بأي حال من الأحوال، ومن المرجح أن المسلحين حاولوا المغادرة إلى بيلاروسيا من أجل مواصلة الرحلة من هناك، لكن السلطات الروسية تتهم دوما أوكرانيا بالتسبب في أي مشكلة، ولم يذكر بوتين المأساة في مؤتمره الصحفي السنوي.
“سوريا – صفعة على الوجه”
نجا نظام بشار الأسد في سوريا لمدة تسع سنوات إضافية بدعم من الجيش الروسي، وظهرت تلك الوحدة الروسية في أواخر عام 2015، كما سُلط الضوء على بقاء الأسد في السلطة، فضلاً عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، المحظور في روسيا، لسنوات عديدة باعتباره أحد انتصارات السياسة الخارجية الرئيسية للكرملين.
وعلى الرغم من ذلك، في ظل ابتلاع الحرب الأوكرانية كل موارد روسيا، لم يكن لدى موسكو الوقت لسوريا أو بشار الأسد.
وبناء على ذلك استطاعت هيئة تحرير الشام المعارضة الإطاحة بالنظام السوري في دمشق في غضون عشرة أيام، واضطر الأسد إلى البحث عن ملاذ له في روسيا، وهناك سيبقى برفقة، على سبيل المثال، الزعيم الأوكراني الهارب، فيكتور يانوكوفيتش.
كان سقوط نظام الأسد خبرا سيئا للكرملين، والأسوأ من ذلك الخسارة المحتملة للقواعد العسكرية الروسية في مدينتي اللاذقية وطرطوس السوريتين، الأمر الذي يعني بدرجة كبيرة اضطرار روسيا، على الأرجح، إلى تقليص جميع مشاريعها الأفريقية، وأنها ستتوقف عن النهوض بدور لاعب رئيسي في سياسات الشرق الأوسط.
زعم بوتين لسنوات عديدة أنه يعيد روسيا إلى وضع “القوة العظمى”، بيد أن الحرب الدموية التي بدأها أدت إلى تحول البلاد، في أفضل الأحوال، إلى لاعب إقليمي لا تريد حتى معظم جيرانها أي علاقة معها.
وعلى الرغم من ذلك استخدم الرئيس الروسي كلمته السنوية للأمة لتأكيد وجهة نظره بأن روسيا لم تخسر في سوريا، وبحسب بوتين، حققت روسيا أهدافها في سوريا ومنعت تأسيس خلافة إسلامية، بيد أنه اعترف بأن الوضع “معقد”.
وقال إنه لم يتحدث حتى الآن مع الزعيم السوري المُطاح به، الذي فر إلى موسكو مع اقتراب قوات المعارضة من دمشق في وقت سابق من الشهر الجاري، وقال إنه يعتزم ذلك قريبا، مضيفا أن روسيا تجري محادثات مع حكام سوريا الجدد للاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين مهمتين من الناحية الاستراتيجية على ساحل البحر المتوسط، وأن موسكو ستدرس استخدامهما لأغراض إنسانية.
“صاروخ أوريشنيك”
مع اقتراب نهاية عام 2024، وتجاوز القوات الأوكرانية وحلفائها “الخطوط الحمراء” الروسية كل يوم تقريبا، استعان الكرملين أخيراً بشيء آخر لتهديد الأطراف، بخلاف التهديد بالقنبلة النووية، كان هذا “السلاح الخارق” الروسي الجديد هو صاروخ “أوريشنيك”.
كانت المرة الوحيدة التي استُخدم فيها أوريشنيك، حتى الآن، في النصف الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني في مدينة دنيبر الأوكرانية، وادعى الروس أن استخدام الصاروخ جاء رداً على إطلاق صواريخ غربية بعيدة المدى استهدفت الأراضي الروسية، ومنذ ذلك الوقت، أشاد بوتين والدعاية الروسية بالصاروخ “أوريشنيك”.
كانت ثقة بوتين بنظام أسلحته كبيرة إلى درجة جعلته يقترح خلال مؤتمره الصحفي الذي بثه التلفزيون “مبارزة” لإظهار السيطرة، وقال إن روسيا لابد أن تطلق صاروخ “أوريشنيك” باتجاه أوكرانيا، وعلى الدفاعات الجوية الأوكرانية، باستخدام أنظمة زودتها بها الولايات المتحدة، محاولة إسقاطه.
لم يمر خطاب واحد أو مؤتمر صحفي لبوتين، منذ استخدام “أوريشنيك” دون ذكره لهذا الصاروخ، واعتبر البعض ذلك تراجعا معينا في درجة المواجهة، فمن ناحية يهدد الكرملين أعداءه بشيء آخر غير القنبلة النووية، ومن ناحية أخرى، عندما يتوقف الجميع عن تخوفهم من “أوريشنيك” والسخرية منه، فقد يعود الكرملين إلى الخطاب النووي مرة أخرى، حيث يبدو أن التهديدات عادة من عادات بوتين.
“صداقة مع كيم جونغ أون”
في أواخر عام 2023، عزز الكرملين تعاوناً عسكرياً مع كوريا الشمالية، واستعانت موسكو، بسبب نقص قذائف المدفعية والصواريخ الباليستية في الحرب مع أوكرانيا، ببيونغ يانغ للحصول عليها، وفي المقابل، زودت روسيا كوريا الشمالية بالنفط للتحايل على العقوبات الأممية.
وفي عام 2024، التقى بوتين زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، في بيونغ يانغ، بعد 24 عاما من زيارته الأخيرة لواحدة من أكثر الدكتاتوريات استبدادا في العالم عام 2000، وكان زعيم البلاد وقتها شخصاً مختلفاً، هو كيم جونغ إيل، والد كيم جونغ أون، لكن في روسيا، ظل شخص واحد يتربع على راس السلطة طوال تلك السنوات، هو بوتين.
وفي أعقاب “لقاء المنبوذين”، كما أُطلق عليه في وسائل الإعلام الغربية، أبرمت الدولتان اتفاقية بشأن “شراكة استراتيجية شاملة”، ونصّت الاتفاقية، من بين بنود أخرى، على الدعم العسكري “إذا وجد أحد الطرفين نفسه في حالة حرب”، وبحلول الخريف، ظهرت قوات من كوريا الشمالية في الجبهة الأمامية للمعارك في الحرب الروسية الأوكرانية.
وقدّر حلف شمال الأطلسي أعداد القوات الكورية الشمالية بنحو 12 ألف جندي، كما توصلت السلطات الأوكرانية إلى تقدير مماثل.
نفت موسكو وبيونغ يانغ، في البداية، مشاركة قوات من كوريا الشمالية في الحرب الأوكرانية، بالتصريح المعتاد “إنهم ليسوا هناك”، وفي نهاية أكتوبر/تشرين الأول، تحدث بوتين، خلال تعليق على حقيقة أن روسيا لم تتلق الآن ذخيرة فحسب، بل قوات من كوريا الشمالية، مشيرا إلى الاتفاق المُبرم بشأن “الشراكة الاستراتيجية” وقال: “ماذا وكيف سنفعل هذا، إنه شأننا”.
أصبحت محاولات استعادة أراضي منطقة كورسك التي احتلتها أوكرانيا في أغسطس/آب من شأن جنود كوريا الشمالية، وبحلول شهر ديسمبر/كانون الأول، وردت أنباء أفادت بمقتل أو إصابة مئات من قوات كوريا الشمالية بالفعل، فهذه الحرب ربما لم يعرفوا عنها شيئا حتى وقت قريب، ومن المؤكد أن الصحف المحلية في جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية لم تكتب عنها في عامها الأول.
واعتبر حلف شمال الأطلسي مشاركة كوريا الشمالية في الحرب الأوكرانية تصعيداً واضحاً، بعد أن أشركت روسيا بشكل مباشر طرفاً ثالثاً في الصراع المسلح.
كما أشار مصدر كبير في حلف شمال الأطلسي خلال تصريح لبي بي سي إلى أن عواقب هذا الإجراء لن تؤثر فقط على الوضع في ساحة المعركة.
وتعتقد وزارة الخارجية الأمريكية أن شريكة مهمة أخرى لروسيا، وهي الصين، غير سعيدة بتنامي تلك الصداقة بين موسكو وبيونغ يانغ.