ثقافة وفن

مسرحية الجدار.. حرية التمسرح/ التمرد الجمالي المعاصر

د. محمد حسين حبيب
هنا.. لا أكتب الى القارىء العام لطفا، بل اكتب مقالتي هذه لاولئك المفجوعين الذين شاهدوا عرض مسرحية (الجدار)، عليه أنصح بمشاهدة هذا العرض / هذا التمرد، ومن ثم عودة لقراءة مقالي هذا..
لا وصف هنا للعرض وجراحه النازفة، ولا مصطلحات نقدية أو أعلام مشهورة، أستلها من خزيني المعرفي الساكن، مستعرضا ثقافتي النقدية الجامدة المحتكمة لبؤس المناهج والاساليب النقدية الخنوعة والرتيبة.
لقد تمرد عقل المخرج (سنان العزاوي) على الظلم هنا فأبدع بحرية منتظرة منه، ومن كاتب نص الجدار (حيدر جمعة) الذي قدم لنا (خراءه) الجمالي من فمه / قلمه الذي تمرد فأبدع هو الاخر بحرية، فاقتنص الحكايا من عالمنا المثير والغزير، بحقائق الخزي والعار المقنعة بستائر الدين تارة، وبستائر السياسة القذرة والآسنة تارة اخرى.
وتتلى علينا الاسئلة بوصفنا بشر في عالم المتناقضات العجيب هذا:
هل نحن بشر؟ هل نحن أحياء؟ هل نحن أموات؟ هل نحن حيوانات؟ ملائكة؟ شياطين؟ مؤمنين؟. . هل نحن قوادين؟
نعم، لا ممنوع هناك.. بل هناك عري وكشف وادانة، لكل ممنوع مرغوب.. هو فساد ظاهر ومستشري في مدن العالم الثالث، بحسب زعم المخرج (العزاوي) في محاولته التعميم، لكن الاسقاطات الاخراجية لواقع حال زمان ومكان الرؤية الاخراجية – التي هي حالنا وزماننا ومكاننا جميعا- كانت جريئة برمزيتها واشاراتها وجميع ملفوظاتها الحوارية التي جاءت مستفزة للتلقي هنا والان:
(السافل/ المنحط/ القواد/ القذر/ الديوث/ الشاذ جنسيا / المخدرات/ مدمن افلام اباحية…) الخ مما يشكل ظواهر مرضية مستوردة دخيلة على عالمنا، او بحسب قول المخرج (العالم الثالث).
يبدو هنا ايضا.. ان حكايا شهرزاد لم تنته بعد.. لنجد انفسنا امام سلسلة حكايات جديدة معاصرة حاضرة بيننا (ممنوعة مرغوبة) من حكايات الف ليلة وليلة، سطرها لنا (جمعة) ببوحه الهستيري، وكانه في مصحة امراضه العقلية، لكن هي تلك الامراض الواعية لهلوستها والثائرة- كثورة العرض برمته- على واقع (جمعة) وواقعنا وواقع حال العالم الثالث ترطيبا لخاطر (العزاوي).
هذه الحكايات تمردت هي ايضا، على ليالي زمانها ومكانها.. حكايات مجموعة نساء و ديوث، فضت الالة الجهنمية الحاكمة (صاحب المكان) بكاراتهن، كذلك بكارة الديوث..
فالإمرأة الاولى: تلك التي يخدعها حبيبها ثم زوجها بتغذية جسدها وتسمينه، غافلة بذلك عن مقصده الدنيء في ان يجعل منها مومسته الخاصة (يستكعدها) ليكون قوادها الفحل الزنيم.. اما المرأة الثانية تلك التي يجبرها زوجها الخوض في تجربة تبادل الزوجات مع صديق له.. والمرأة الثالثة: تلك التي تحلم بالطيران فخدعها اخيها عبر الادمان والتخدير والاغتصاب فتزوجت في النهاية من أخيها.. والأخرى: حملت من أبيها عدة مرات، اجبارا واكراها منه وتهديدا، والاخرى: التي خدعها ذلك السياسي القذر وسلب منها انسانيتها فحولها لراقصة يعتاش عليها، والاخرى: استدرجها ذلك الرسام الحقير الى مكتبه ليغتصبها فقتلته ومزقت جسده بفرش الرسم فحرق وجهها، والاخرى: التي اتخذت من الدين غطاء بعد فواجع عدة في ال (هنا) و (الان) وكانت دلالة العرض السياسية بامتياز ف (باسم الدين باكونا الحرامية)، و ((انهم يقتلون الجياد اليس كذلك؟) ) نعم فهؤلاء هم الذين قتلوا ابناءنا وهم ينتفضون، ولاقضاء ضدهم، هنا و الان.
وللديوث مأساته المائزة حين تعرض للاغتصاب وهو في عمر الرابعة… ياه.. يا لهذه الحكايا التي كانها وحسب تجسيد العرض لها اداءا جسديا وروحيا ونفسيا عبر تحولاتها المنظرية واللونية والموسيقية وازياء كلا منهم وذلك الانغماس الادائي المضني حقا.. جاءت كانها الوصايا الخمس، لا العشر.. لتتربع على تاريخ البشر القهري والاستبداي، ثائرة هنا في (الجدار) او خلفه او امامه، على مظلومية كل حكاية بكل هذا العنف الادائي القاسي مع موج من التكرارات الجمالية القصدية التأكيدية، بسبب هول الكارثة ومتنها الحكائي.
لنجد انفسنا امام مجموعة من الابواب التي ضمت هذه الحكايا وشخصياتها التي تناغمت غلقا تارة وفتحا تارة اخرى، مستعرضا العرض لنا استثمارا مبتكرا للتقنية الرقمية وهي تولج عمق اسرار كل حكاية منفصلة مرة ومجتمعة مكررة مرة اخرى، بحسب الحاجة الدرامية والصورية لذلك الموقف او الحدث المراد التركيز عليه فكريا وجماليا.
نعم ونعم.. اكررها مثنى وثلاث نعم.. الدهشة المت بالتلقي واتفقت بالاجماع على سمو الاداء التمثيلي الساحر لاصحاب هذه الحكايات: (الاء نجم / يحيى إبراهيم/ لبوة عرب / رضاب احمد / اسراء رفعت / زمن الربيعي / رهام البياتي / نعمت عبد الحسين / رنا لفته) ولم يقتصر هذا السحر الأدائي نفسه على هؤلاء، بل تلمسناه عند الاخرين وكان الجميع تنافسوا بمشروعية عالية ليتمردوا على جميع الاداءات التقليدية البائسة بحكم الشغل التوجيهي الورشوي الاخراجي ونحته ليظهر لنا اداءات: (دريد عبد الوهاب / فيروز طلال / ايمن الشاهين/ اماني حافظ/ عراق امين/ عبير الخفاجي/ علي نعيم / اسيل احمد)..
ويا للدهشة الصورية الاخراجية التي تلاقحت مع فضاء العرض التي صنعها لنا السينوغراف (علي السوداني) عبر جميع التحولات الشكلية المبهرة على طول مساحات العرض وصولا الى تلك اللحظة التي عبرت عنها تلك الايادي التي ظهرت من على جانبي الجدارين وكذا الحال مع المشهد الاخير وهيمنة رمزية صاحب المكان بهذا العدد من الرجال المقنعين بذات القناع، عبر مشاركة نخبة متميزة من طلبة معهد الفنون الجميلة بغداد، وهم يتوجهون بسلطة الجدار نحونا كالمنتصرين برغم الانتفاضة الجماعية والتمرد الثوري الذي انتفضت به جميع ابطال وبطلات هذه الحكايا الشهرزادية الشاذة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية وغير الاسلامية.. لم تكن حكايات مفترضة.. ولم تكن استثناءات تحدث هنا وهناك.. لكن (الجدار) هنا يدق جرس الانذار عنها، صوب اذاننا السليمة منها وغير السليمة، كي نسمع عنها همسا او جهرا، ونرى نتائجها علنا او سرا، عسى ولعل ان يكون هذا الصراخ المسرحي المدوي جمالا وفكرا، عساه يكون حلا ناجعا من اجل الخلاص المنتظر … فالجميع هنا ضحايا.. ولدوا، فصاروا ضحايا، فتعذبوا.. ثم تمردوا فقاموا بالثورة، لكنهم فشلوا.. فانتصر الجلاد (صاحب المكان) ولما يزل منتصرا … فمن اجل ان لايولدوا ضحايا جدد، ليتعذبوا ويثوروا مرة اخرى ويخسرون في النهاية كل شيء.. جاء هذا العرض (الجدار) ملحمة مسرحية عراقية مشرفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى