ثقافة وفن

عبد السلام الناصري.. الاختيار الصعب المحفوف بأشد المخاطر

د. جمال العتّابي
ما الذي يميز مذكرات عبد السلام الناصري عن سواها من المذكرات التي كتبها قادة شيوعيون في فترات سابقة متفاوتة؟ في الإجابة عن هذا السؤال تكمن الإشكالية الأولى في هذه المذكرات، فالعودة الى مذكرات العديد من أولئك مايشير الى اختلاف بائن في الرؤى وتفسير الأحدات وتحليلها، كلٌ ينطلق من وجهة نظره الخاصة، وهم يتناولون الحقبة الزمنية ذاتها. لكنها على العموم تعدّ إحدى المصادر المهمة في تدوين التاريخ وإن اختلفت فيها الآراء وتباينت موثوقيتها.
(صدى السنين الحاكي… أربعون عاماً في النضال السري والجماهيري) السيرة الذاتية للقائد الشيوعي عبد السلام الناصري، صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع أواخر عام 2024. استهلتها كريمته الوحيدة (ميلاد) بمقدمة استعرضت فيها بأمانة وصدق سيرة والدها بعد عام 1979 إذ بدأ وعيها يتشكّل بوقت مبكر وهي ما تزال لم تتجاوز من العمر خمس سنوات، اذ ادركت حينذاك حجم الألم والعذاب الذي يحمله الأب الخارج من السجن تواً، محطماً ومتعباً مخذولاً، يتلفت يميناً ويساراً ولا يرى أثراً لرفاقه. كانوا قبل أشهر محيطون به يشعروه ان الحياة بطعم تفاحة!
محنة ان تكون وأن تبتدئ، محنة أن تنتهي، يترصدك الخوف أنى حللت، وأنى ارتحلت، تقضّ الوحدة مضجعك..
إذاً من سيبقى معك حين سيصدأ سيفك أيها الناصري؟ حين يشيخ بك العمر، كل الذين عرفت، مضوا!
هل تخيرت وحدك هذا الطريق؟ الرجولة تكمن في الموقف الصعب، كن وحدك البطل المتوحد، كن كما شئت واختصر المسألة. عماذا تتساءل: “لم يبق من أعضاء اللجنة المركزية في بغداد تحت رحمة صدام سواي لا غيري… لماذا؟ لا أدري!!”
الطريف في هذه المذكرات ان عنوانها (صدى السنين الحاكي)* اختاره الكاتب لاعجابه بأغنية محمد عبد الوهاب (ياجارة الوادي)، التي كان يغنيها أمام الطلاب في ساحة المدرسة، إذ يمتلك الناصري صوتاً جميلاً يعجب معلم الرياضة (نعمان)، وتلامذته، فيطلب منه ترديد الاغنية في الساحة، وأحيانا كان الناصري يقلّد قارئ القرآن عبد الباسط عبد الصمد، بترتيل عند تجمع الطلاب الصباحي قبل دخولهم الصفوف، واحياناً يرتّل للشيخ المصري محمد رفعت، وكلما يكمل آية ينهض الجميع بصوت واحد (الله.. الله يارفعت الصغير).
ولد الناصري في البصرة عام 1923،أصوله تعود الى مدينة تكريت، من قبيلة (البو ناصر)، درس آباؤه الفقه وعلوم الدين، كان والده عالماً دينياً مرموقاً، وإمام وخطيب جامع (الكواز) في البصرة. تنقل بين البصرة وبغداد، دخل عالم الصحافة من خلال اخيه الصحفي عبد الرزاق الناصري زميل الشاعر الجواهري في جريدة (الرأي العام).لم يكمل دراسته الاعدادية لتفرغه للعمل بسبب ظروفه المعيشية القاسية.
كان انتماؤه للحزب الشيوعي عام 1941انعطافة شديدة في سيرته، وتحولاً نوعياً في منهج تفكيره، غيّر نمط حياته بالكامل، وبسبب هذا الانتماء واجه الناصري صعوبات كثيرة، وتعرض للسجن لمرات عديدة، كما عانى من شظف العيش، واضطر للعمل في أعمال شاقة بأجور بخسة جداً، قام بمهام خطيرة في ظروف العمل السري، وكلّف لمرات عديدة بواجبات حزبية عرّضت حياته للخطر، في التسلل الى أراضي الكويت وايران عبر طرق غير مأمونة يجتاز فيها الأنهار وغابات النخل الكثيفة.
ظل يعيش ثراء وجوده الانساني الى منتهاه، يستقي منه حصانته، ورحيقه الفكري ليشكل مواقفه من الحياة، والعلاقة بالآخر وبالسلطة تحديداً، كان على الدوام مطمئناً من نفسه، انه موقف المناضل الحاسم على مشاق ومخاطر، برسوخ ايمانه بعقيدته، يقول بهذا الشأن: “
يسألني أحد الصحفيين: هل أنت نادم على ولوجوك طريق النضال الشيوعي؟؟، فأجيبه:
يندم المرء إذا سار في جادّة الشرّ والرذيلة وإيذاء الناس والأعمال المهينة لكرامة الإنسان… أأندم على اعتناقي لنظرية أبو الفقراء كارل ماركس، وأنا فقير، لقد عبرت الزمن وأعبره الآن وأنا في الواحد والتسعين من عمري الآن من خلال الاقتناع وتشرّب روحي وعقلي لنظرية العمال وسائر الفقراء والمظلومين والمستغلين واقامة نظام عادل لهم. ” (انتهى قول الناصري).
موقف الناصري هنا منحاز بامتياز لانتمائه الطبقي، فيه ينأى عن ترف الحياة، يعلن رفضه للإغراءات والهبات، لأنه عاش عفيفاً، رفيع المقام، متيقناً من انتصار قضيته، مؤمناً أشد الإيمان بها.
هذا الايمان الذي يكاد يقترب من (الايمان الكهنوتي)، ربما هو الذي قاده الى تبني ما يعرف ب(خط آب) عام 1964 في عهد الرئيس عبد السلام عارف، ليس هذا فحسب بل هو يدافع عنه حتى (النفس الأخير)، يجد له المبررات (التكتيكية) والمسوغات النظرية، في الوقت الذي أجمعت فيه أغلب منظمات الحزب وقواعده في الداخل على إدانة هذا التيار ورفضه رفضاً حاسماً واجبار (فرسانه) على التراجع والإذعان لرأي الأغلبية. هنا تكمن إشكالية هذه المذكرات كما أسلفنا. فالناصري يسخر من أولئك المزايدين، و(الثورچية) المسطحة، إذ يتبارون في شتم ما يسمى ” بخط آب الانتهازي اليميني”، والحقيقة كما يقول عبد السلام: انه ليس بخط ولا نقطة ولا انتهازي ولا يميني ولا يحزنون إلا في نظر الذين ينظرون إلى الأمور السياسية بنظرة ذاتية انفعالية ومثالية خارج حركة الواقع الملموس.!!
ان التبريرات التي يسوقها الناصري لتمرير (الخط التصفوي) تبدو غير مقنعة في حينها، فكيف لنا قبولها في عصر التحولات والانهيارات الكبرى؟ إن الأمر في غاية التعقيد ومثير للشفقة في ذات الوقت!
يقول الناصري: تأجّل اسقاط نظام عارف، لأنه كان في صراع مع البعث، وأنزل ضربات قوية ضد حزبهم! ان موقف الحزب هذا ينطلق من (تاكتيك) العدو والعدو الأخطر! ولو عدنا الى مرجعنا الفلسفي الاول – الكلام للناصري – (كارل ماركس) لوجدنا ضالتنا في هذا (التكتيك)، إذ أكد ما معناه أن السياسي المتفهم هو من يميز في اللحظات الحاسمة، ص122، ويضيف الكاتب: ان موقف الحزب في آب لا ينطلق من موقف التأييد لعارف وحكمه بل من موقف العدو والعدو الآخطر.
لا ينفي الناصري دوره في صياغة البيان الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في آب 1964 المنعقد في ضواحي مدينة براغ، و (يتشرف) بهذا الدور على حد وصفه، و يشير بوضوح الى ترحيب (الرفاق السوفييت والأحزاب الشيوعية الشقيقة الأخرى) بهذا التوجه، بعكس ما ادّعاه البعض انه خط مفروض من السوفييت!!، بينما يؤكد رحيم عجينة في مذكراته (الإيحاء) السوفييتي بهذ الخصوص.
يذكر القيادي الشيوعي (جاسم الحلوائي) في كتابه (محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي) حقيقة موقف الناصري بهذا الشأن، إذ يقول:
كان سلام الناصري مؤيداً للنهج السوفييتي الجديد، ويطرح آراءه للمناقشة على قيادة التنظيم، ويبشّر بها، وفي اجتماع موسكو لأعضاء ومرشحي اللجنة المركزية الذي دعا اليه الناصري في حزيران 1964، وأيّد أغلب الحاضرين طروحات الناصري حول ما سُمي ب (نظرية التطور اللارأسمالي).
ينقل الحلوائي هنا رأياً فيه من الصواب لعزيز سباهي وهو يقيّم خط آب اذ يقول: انه يمثل انعكاساً لأزمة الأيديولوجيا التي بني عليها كيان الحزب وتثقيفه، انعكاساً للتناقض الكبير بين واقع خطابه الى الجماهير وواقع الحياة التي يناضل فيها، والفهم المشوش للأسس النظرية للاشتراكية والنظرية التي تبناها الحزب في سياساته ومواقفه العامة، ص314.
في فصول أخرى من المذكرات يشيد الناصري بالدور التاريخ لرئيس الوزارة خروتشوف وأمين عام الحزب الذي دشّن بداية مرحلة جديدة لتصحيح أساليب العمل السياسي والمفاهيم كما زعم الكاتب، وإزاحة الأضرار التي لحقت بالإتحاد في عهد (ستالين)، تمثل هذا الاجراء في كشف وإدانة نهج (عبادة الفرد)، إلى حد الألوهية والتقديس، وفضح الاوراق المستورة في زمن (الطاغية) ستالين، والأعمال الشنيعة ضد ألوف الشيوعيين، والمفكرين والمثقفين والأدباء بعقوبات قاسية وأكثرها الإعدام. في أجواء انعدام حرية الفكر والرأي، وبرغم ان خلفاء ستالين سىعوا بمعالجة الجمود العقائدي ونتائج تلك السياسة، الا انهم لم يستطيعوا أو يجرؤوا على التخلص منها نهائياً،
وحين يتحدث الناصري عن فشل التجربة السوفيتية هو غير ذاك الكاتب الذي ما تراجع لحظة واحدة في الدفاع عن تجربته الخاصة بأخطائها، بينما يؤشر هنا بكل وضوح وصفاء ذهني الاخطاء المتراكمة للقيادات، وتحجرها الفكري والعقائدي، وتحول (دكتاتورية البروليتاريا) إلى ديكتاتورية الحزب الواحد ثم إلى ديكتاتورية الفرد المقدس الذي لا يخطأ أبداً.
هذا (الفقير) الذي كلف من قبل قائد الحزب (فهد) ان يكون مساعداً لقيادة التنظيم عام 1949 في ظروف شاقة ومعقدة، محفوفة بأعظم الأخطار، كانت لديه أمنية يختتم فيها حياته، لم يطلب مالاً، ولا (قصراً) في الجنة، كل ما يتمناه زيارة لمقر الحزب، لم يكن مطلباً صعب المنال، لكنه اختصر حياته في النهاية كلها بالقول: أرجو الآن أن (أغمض) عيني الاغماضة الأخيرة، وانا أزور مقر الحزب وقيادته وأعضائه، وأرجو أن يتحقق ذلك عندما استطيع لأن أقوم بذلك.
من المؤسف يا أبا نصير ان امنيتك الأخيرة لم تتحقق، ورحلت رحلتك الأبدية، لأنك لم تغادر وطنك، على الرغم من كل ما حمله اختيارك هذا من عذاب وألم، واكتفيت بشد الأحزمة على البطون، ويا لها من مهنة شاقّة، لأنك لم تذق طعم الوطن، فوقفت حتى لحظة رحيلك الحزين موقف المتسائل عن إجابات لا نهاية لها.
أخيراً، لا أعتقد أن الناصري اختار العزلة لنفسه أو الصمت إن صحّ التعبير، يقف متفرجاً لما يحدث، فهو يمتلك حساسية ذكية في معاينة المشهد، وحياته ترتبط بتاريخ العراق السياسي، فمن الصعب أن نتجاسر على اختياراته إلا بوصفها اختياراً حراً من طراز خاص. كان يمكن للناصري (كما ذكر لي أحد القراء) أن ينال مالاً ومجداً وجاهاً آخر، أن يعيش في ظل نعيم وفير، لو انصرف منذ صباه لقراءة المواعظ الدينية، ما كان له أن يرى كل هذا الضيم.
……………..

  • هل كان عبد السلام الناصري يعلم ان مذكرات رفيقه زكي خيري تحمل عنوان (صدى السنين)؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى