متاهات وميكانيكا الكم

ألبرتو جِيْ. روخو*
ترجمة: لطفية الدليمي
القسم الأوّل
مدخلٌ إلى المتاهة البورخسية
في التاسع من تمّوز (يوليو) 1985، وبمحض مصادفة طيّبة، حصل أن تبادلتُ بضع كلمات مع خورخي لويس بورخس. كان الوقت حينذاك صباحاً أعقب ليلة زواجي قبل الشروع في رحلة شهر العسل أنا وزوجتي. اعتزمنا قبل بدء الرحلة المضيّ لتحيّة والديّ اللذيّن قَدِما من مدينة توكومان Tucumán إلى بوينس أيرس العاصمة، ومكثا في فندق دورا Dorá المطلّ على شارع مايبو Maipú. أمسكتْ والدتي حينها بذراعي وقادتني إلى غرفة الطعام في الفندق. كانت كلّ طاولات الطعام فارغة ما خلا واحدةً. هناك كان يجلس بورخس وهو يتناول غداءه صحبة إمرأة ربّما كانت إستيلّا كانتو التي كان بورخس يتبادل معها الحديث بإسبانية تتلوها عبارات بالإنكليزية في سلسلة متناوبة: بعض الإسبانية ثمّ بعدها مقاطع بالإنكليزية ثمّ إسبانية،،،،. هكذا مضى حديثهما على هذه الشاكلة. صُعِقتُ لفرط الدهشة، ومضيتُ أتطلّعُ في بورخس وأتفحّصه بدقّة كمن يقف أمام نُصُبٍ نحتية عظيمة وهي لا تراه ولا تُلقي له بالاً. كان بورخس يرتدي بزّة داكنة، وربطة عنق أنيقة، وأمامه طبقٌ فيه كمّية متقشّفة من الرز الأبيض. أقنعني والدي بالإقتراب من بورخس وتبادل الحديث معه، لذا إنتظرنا حتى يفرغ من غدائه. عندما جاءه النادل -الذي كان يتعامل معه بجرعة مفرطة من التهذيب والإحترام ويناديه “كبير الأساتذة”- بكوب من الشاي شرعنا بخطوات بطيئة صوب طاولة بورخس. بدأ والدي الحديث أولاً، وبعده شرع بورخس-الذي بدا منتشياً بفكرة تبادل الحديث معنا- بسرد حكايات مكتنزة بالثقافة والمعرفة والرصانة عن موضوعات عديدة: عن الرب، والمينوتور (الكائن الأسطوري)، كما وجّه إنتقاداً لاذعاً لِـ (أورتيغا دي غاسيت) قائلاً أنّه إلتقاه عندما زار الأرجنتين، وكان إنطباعه عنه يساوي صفراً!!.
لم تتعدّ مداخلتي الوحيدة في حديثنا مع بورخس حدود الإشارة إلى أنّ بعض النصوص الفيزيائية تحوي إشاراتٍ إلى بعض أعماله. كنتُ أيامذاك طالباً جامعياً في معهد بالسيرو في باريلوتشي، وما عنيتهُ بكلامي بالتحديد هو عمل بورخس المسمّى (اليانصيب في بابل The Lottery in Babylon) حيث يورد بورخس تأمّلاتٍ في موضوعَتَي العشوائية Randomness والحتمية Determinism. أكّد بورخس -بل أفرط في التأكيد- جهله بالموضوعات الفيزيائية من خلال إجابة غير متماسكة كان عليّ تكرارُها كثيراً. تبادلُ الحكايات الشخصية مع بورخس فرصةٌ رائعة لكي يصاب المرء بغرور لا سبيل لكبحه، إذ الجميع يعلمون أنّ صيته أقربُ لعالَمٍ لا يفتأ يتوسّعُ من غير كوابح، لكن في الوقت ذاته فإنّ قلّة من البشر تعلمُ أنّه رجلٌ يسير المنال، يسعدهُ كثيراً أن يتحدّث إلى النجوم العالميين مثلما يتحدّث إلى كثرة من المغمورين الذين لم تطرق الشهرة بابهم.
مرّ بي لاحقاً، وبمحض المصادفة أحياناً، العديدُ من الإستشهادات بأعمال بورخس في النصوص العلمية وكذلك في الكتابات العلمية الموجّهة للعامة: إشاراتٌ إلى (مكتبة بابل The Library of Babel) لتوضيح مفارقات المجموعات اللانهائية(1)، والهندسة الكسورية Fractal Geometry (2)، إشارات إلى العمل التصنيفي الرائع للدكتور فرانز كون في (اللغة التحليلية لجون ولكنز The Analytic Language of John Wilkins)(3) (ذلك العمل بين أعمال بورخس الذي يفضّله علماءُ الأعصاب والمشتغلون بالمباحث اللغوية)، تعليقاتٌ على (فونيس، قوي الذاكرة Funes , His Memory) فيما يختصُّ بأنظمة الترقيم الحالية(4)، بل بلغ الأمر حدّ أنّني عثرتُ على إقتباس مستلّ من (كتاب الرمل The Book of Sand) في ورقة بحثية هندسية بشأن فصل المخاليط الحبيبية(5). لكن برغم هذا فإنّ كلّ ما أوردتُهُ من إشارات يبقى محض أمثلة مجازية تسعى إلى فهم أفضل لغموض التعقيدات التقنية. ثمّة إستثناءٌ واضحٌ بين أعمال بورخس، ذلكم هو (حديقة المسالك المتشعّبة The Garden of the Forking Paths) حيث يتجاوز بورخس مسألة الفهم الأفضل للتعقيد التقني إلى إقتراح قدّمه من غير علم مسبّق (لم تكن له وسيلةٌ حينذاك ليعلم ما كان يقترحه)، وهذا الإقتراح ينطوي في تضاعيفه على حلّ لمعضلة مستعصية في ميكانيك الكم. عَمَلُ بورخس هذا (حديقة المسالك المتشعّبة) الذي نشره عام 1941 سبق فيه بورخس ما قدّمه هيو أيفيريت الثالث Hugh Everett lll من حل لمعضلة ميكانيك الكم في أطروحته للدكتوراه التي قدّمها تحت عنوان (صياغة الحالة النسبية لميكانيك الكم Relative State Formulation of Quantum Mechanics )(6) والتي أشهَرَها برايس ديويت Bryce DeWitt لاحقاً تحت مسمّى تفسير العوالم المتعدّدة لميكانيك الكم The Many Worlds Interpretation of Quantum Mechanics . هذا التوافق الغريب والمثير بين مادة علمية محتواة في ورقة بحثية من جهة، وحكاية قصيرة من جهة أخرى هو موضوع مادتنا التالية، وهو ما نهدف إليه في موضوعنا الحالي.
مسالك كموميّة Quantum Paths
قوانين ميكانيك الكم تصفُ سلوك العالم المايكروسكوبي (الصغير)- ذلك العالمُ الذي تكون فيه الأجسام الفيزيائية بالغة الخفّة إلى حدّ يجعل ضغط شعاع الضوء، مهما كان ضئيلاً، قادراً على إحداث إنزياحات Displacements مفاجئة. الأجسام في هذا العالم الصغير (الذرات والجزيئات غير المرئية للعين البشرية) تتحرّك وتتفاعل بينها بكيفية مختلفة نوعياً عن تفاعل كرات التنس والسيارات والطائرات وشتى أنواع الحيوانات في العالم المرئي (الماكروسكوبي أو الكبير). دعونا نرَ كيف يحصل هذا الأمر.
عندما نصفُ الأجسام في كلّ من العالميْن المايكروسكوبي (الصغير) والماكروسكوبي (الكبير) فمن المفيد أن نتحدّث عن حالة الجسم The State of an Object. من الممكن مثلاً أن تكون حالة كرة التنس ساكنة بجانب الشبكة، ومن الممكن أيضاً أن تكون حالة أخرى: كأن تكون على إرتفاع متر واحد فوق سطح الأرض وتتحرّك إلى الأعلى بسرعة متر واحد في الثانية. في هذه اللغة الفيزيائية (وهي رياضياتية بالتأكيد) يعني تحديد حالة كرة التنس في لحظة معيّنة الإشارة إلى موقعها وسرعتها في تلك اللحظة. قوانين الميكانيك الكلاسيكي التي وضع صياغتها الرياضياتية إسحق نيوتن تسمح لنا بالتنبّؤ بحالة الكرة في أيّ وقت لاحق فيما لو علمنا حالتها عند لحظة ما سابقة للحظة المطلوبة. أمّا في العالم المايكروسكوبي (الصغير) الذي تحكمه قوانين ميكانيك الكم فالأجسام لا تعمل بالطريقة السابقة: الذرّات والجسيمات المايكروسكوبية الأخرى لا ترتضي وصفاً يتوافق فيه تحديد حالة الجسيم في وقت محدّد مع تحديد كلّ من السرعة والموضع معاً. تحديد حالة الجسيم في وقت معيّن ضمن مفاهيم ميكانيك الكم يعني إبتداع دالة معيّنة تسمّى الدالة الموجية Wave Function، وتتيح لنا قوانين ميكانيك الكم التي صاغها إرفين شرودنغر Erwin Schrodinger وفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg حساب التغيرات الزمنية لدالة الإحتمال الموجية. التغيّرات في حالة الجسيم المايكروسكوبي ليست تغيّراتٍ في موضع الجسيم فحسب بل تغيّراتٌ في الدالة الموجية. هذه هي الثورة المفاهيمية الأولى التي تخالف بها ميكانيك الكم مع مفاهيم الميكانيك النيوتني الكلاسيكي: التخلّي عن فكرة المسار Trajectory وإخلاء الطريق لصالح وصف يتأسّسُ على جملة من إحتمالات عديدة لمسارات مختلفة.
لكنّ الحكاية لا تنتهي هنا. ثمّة أحايين كثيرة يواجه عالمنا اليومي فيها مواقف تلعب فيها العشوائية دوراً حاسماً يتطلّبُ وصفاً يقوم على الإستعانة بلغة إحتمالية. لكي نقارن بين رؤيتين إحتماليّتيْن: كلاسيكية وكمومية يمكننا اللجوء إلى واحدة من أبسط التجارب العشوائية في العالم المايكروسكوبي (الكبير): ترمي أليس عملة معدنية في الهواء وتمسكها بيد مغلقة، ويتوجّب على صديقتها ماري أن تتنبّأ هل أنّ العملة في يد أليس المغلقة هي على الوجه أم الظهر؟ من وجهة نظر ماري يمكن وصف حالة العملة (فلننسَ سرعتها ولو للحظة واحدة) بدلالة دالّة إحتمالية كلاسيكية تعيّنُ لكلّ حالة (الحالتان الممكنتان هنا هما الوجه والظهر) إحتمالاً بنسبة خمسين في المائة لكلّ منهما. بالطبع يتوجّبُ على ماري أن تنتظر حتّى تفتح أليس يدها لمعرفة ما إذا كانت العملة قد سقطت على وجهها أم ظهرها، لكن من الواضح لنا أنّ العملة لا بدّ أنّها كانت بواحد من الحاليْن اللذين لا ثالث لهما، وأنّ الوصف الإحتمالي الرياضياتي ليس سوى تعبيرٍ عن جهل ماري بحالة العملة أو موقعها. إذا ما فتحت أليس يدها فعندها ستعلم ماري على أيّ الوجهيْن سقطت العملة، أي أنها ستنتقل من حالة الجهل إلى حالة المعرفة بحالة العملة، لكنّ حالة العملة ذاتها لم تتغيّر. كلّ ما كشفته الملاحظة هو معرفة نتيجةٍ كانت موجودة مسبقاً.
دعونا الآن نقارنْ هذه التجربة بنظيرتها المايكروسكوبية التي تجري وقائعها في العالم الصغير. لا توجد في هذا العالم عملاتٌ كمومية بالتأكيد، غير أنّ هناك أنظمة (ذرّات مثلاً) يمكن أن توجد في واحدة من حالتيْن تستبعد إحداهما الأخرى. سيدرك القارئ المتخصّص أنّني أشيرُ هنا إلى دوران الذرّة Spin of an Atom الذي يمكن أن تكون له قيمة واحدة من قيمتين ممكنتيْن: واحدة تشير للأسفل والأخرى تشير للأعلى. لنفترضْ أنّ لدينا ذرّة في (صندوق) مغلق (يقوم مقام يد أليس)، وأنّنا نعلمُ أنّ دالة الموجة للذرّة تتوافق مع دوران بإحتمال خمسين بالمائة للأعلى وخمسين بالمائة للأسفل. في ذات السياق الذي فعلناه مع عملة أليس في التجربة السابقة فلو فتحنا الصندوق فسوف نرى الذرّة في واحد من الإحتماليْن، ولو كرّرنا التجربة مع الذرّة ذاتها وهي بحالة أولية محدّدة فسوف نتحقق من أنّ ما يقاربُ نصف الحالات سيكون دوران الذرّة فيها للأعلى، ونصفها الآخر سيكون الدوران فيها للأسفل. حتى هذا القدْر من الحكاية تتطابق الرؤيتان الإحتماليتان الكلاسيكية والكمومية.
لكنّ ميكانيك الكم يعترف بإمكانيّة وجود الذرّة في حالة تراكب من الحالات Soperposition of States ( بمعنى وجود الذرة في حالة دوران للأسفل والاعلى معاً في الوقت ذاته في مثالنا هذا، المترجمة). يحصل هذا التراكب قبل رصد الذرّة، أما بعدما يتمّ رصدها فتكون في حالة واحدة محدّدة تحديداً جيداً. لنفترضْ أنّ ماري لديها الآن كاشف Detector يستطيع فتح الصندوق ومعرفة حالة دوران الذرّة: الفرق بين هذه الحالة والحالة السابقة أنّ فتح الصندوق يتسبّبُ في تغيير حالة الذرّة. الفرق الحاسم يكمنُ في حقيقةٍ مفادُها أنّ الذرة قبل الرصد تكون في حالة تراكب بين حالتيْن، ولا معنى جوهرياً للحديث عن إنّها في حالة دوران للأعلى أو للأسفل، فهي في الحالتيْن معاً في الوقت ذاته. هذا هو جوهر الثورة المفاهيمية الثانية في ميكانيك الكم: فقدان فكرة الواقع الموضوعي Objective Reality. فيما يختصُّ بنيلز بور Niels Bohr الذي تُعرفُ رؤيته هذه بإسم تفسير كوبنهاغن Coopenhagen Interpretation -والذي يمثلُ الرؤية السائدة في تفسير ميكانيك الكم- فإنّ الكيانات المايكروسكوبية تختلف عن الكيانات الماكروسكوبية في وضعها الوجودي، وتنتهي المعضلة عند هذا الحدّ في جانبها الفلسفي. بعبارة أخرى: ليس منطقياً أن نتحدّث عن حالة جسيم مايكروسكوبي إلّا بعد تفاعله مع جهاز قياس ماكروسكوبي، غير أنّ المعضلة المفاهيمية تتعاظم سوءاً لأنّ الآباء المؤسسين لميكانيك الكم يدّعون أنّه الوصف الكامل والموحّد للعالم. تتجوهر معضلة ميكانيك الكم في إحتواء نظريته على عناصر عديدة مثيرة للقلق لأنّها تتحدّى جهازنا الحدسيّ على المستوى الماكروسكوبي.
(يتبع القسم الثاني )
* ألبرتو جي. روخو Alberto G. Rojo: فيزيائي أرجنتيني ولد في توكومان. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفيزياء من معهد بالسيرو واصل حياته المهنية في الولايات المتحدة. عمل باحثاً في جامعة شيكاغو وأستاذاً متفرغاً في جامعة أوكلاند.
عنوان الموضوع الأصلي هو:
The Garden of the Forking Worlds: Borges and Quantum Mechanics
